عندما أطلقت في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بعض جمعيات الأقدام السوداء في فرنسا مطالبها القاضية باستعادة أملاكها العقارية المزعومة في الجزائر، ظن الكثيرون أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مناورة وحرب تصريحات تقف وراءها بعض الجهات التي لازالت تنظر إلى الجزائر بعقيلة الماضي، وأن الأمر سيبقى في هذا الإطار لا أكثر، لكن ومع مرور الأيام والسنين تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الموضوع أعمق وأخطر من هذا بكثير، حتى وصل حد مطالبة هؤلاء الحكومة الجزائرية بحق التمتع بالجنسية علاوة على استرداد كل الأملاك المتروكة غداة الاستقلال رغم أن القانون الجزائري قد عالج هذا الأمر بموجب قانون الأملاك الشاغرة. بلغت عدد الدعاوى القضائية التي رفعها الأقدام السوداء أمام المحاكم الجزائرية قرابة 680 دعوى قضائية حسب ما أكد في مناسبات سابقة السعيد عبادو الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين، وهو رقم مخيف ومرعب في نفس الوقت، خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الفترة الزمنية التي تم فيها رفع هذه الدعاوى كانت منذ دخول الألفية الجديدة تقريبا، وأن الكثيرين منهم قد تحصلوا على أحكام قضائية لصالحهم تخول لهم حق استرداد عقاراتهم وشققهم التي كانوا يحوزونها في العهد الاستعماري، حيث لم يتوان عبادو في التأكيد على تورط جهات داخلية لم يحددها لكنها باتت معروفة، وتتمثل في محامين وبعض اللاهثين من مافيا العقار مع الأقدام السوداء، حيث باتوا يعرضون وساطاتهم للقيام بالإجراءات القضائية والنيابة عنهم مقابل عمولات خيالية. وفي هذا الصدد كان رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان حسين زهوان قد كشف في الأيام القليلة الماضية أن عددا معتبرا من الأقدام السوداء تمكنوا بالفعل وعبر وسطائهم الجزائريين، من رفع دعاوى قضائية والظفر بأحكام قضائية نهائية لطرد العديد من العائلات الجزائرية التي تقطن بالشقق والعقارات التي يدعون ملكيتها، متسائلا عن السند القانوني الذي استند عليه القضاة في استصدار هذه الأحكام، رغم أنها كانت محكومة ومشمولة بقانون الأملاك الشاغرة التي أصدرته الحكومة الجزائرية مباشرة بعد الاستقلال لمعالجة الوضعية القانونية لهذه السكنات التي تركها الأقدام السوداء والمعمرون الفرنسيون والأوروبيون على حد سواء والذي يخول لقاطني هذه العمارات وحائزيها من الجزائريين حق ملكيتها حتى الوفاة على الأقل. ومع أن القانون الجزائري واضح في هذا المجال حسب خبراء في القانون ويمنع المحامين الجزائريين من رفع دعاوى قضائية لصالح الأقدام السوداء أو أي أجنبي غير مقيم في الجزائر، بسبب عدم إمكانية التزامه بدفع المصاريف القضائية، إلا أن بعض القضاة يخرقون القانون ويقبلون هذه الدعاوى في الشكل وفي الموضوع، بل ويصدرون أحكاما قضائية بناء على تلك الدعاوى، حيث أن المرسوم التنفيذي الصادر في 13 ماي 2007 والمتعلق بالقانون المدني في مادته رقم 507 مكرر والتي تنص صراحة على أن ''الأشخاص الطبيعيين البالغين من العمر 60 سنة عند صدور هذا المرسوم، يقيمون منذ الاستقلال في هذه السكنات، لهم الحق في البقاء في الأمكنة المعدة للسكن ويتمتعون بهذا الحق إلى غاية وفاتهم''، ويبقى التساؤل مطروحا ومشروعا في آن واحد حسب هؤلاء المختصين لأن النصوص القانونية وعلى قلتها لا تعطي الحق كاملا لاستصدار هذه الأحكام. في حين عدد العائلات التي أصدرت في حقها أحكام بالطرد كثيرة، خصوصا في العاصمة ووهران وسوق أهراس وقسنطينة، ومست حتى عائلات من الأسرة الثورية، حيث وصل العدد الإجمالي إلى 108 عائلة مستها هذه الأحكام في غياب إحصائيات رسمية، عدا اعتراف وزارة العدل بوجود 600 دعوى قضائية مرفوعة أمام المحاكم الجزائرية بهذا الخصوص. وعلاوة على موضوع استرداد العقارات الذي أصبح أكثر من أولوية للأقدام السوداء بعد أن وجدوا فيه غايتهم انتقلت العدوى إلى المطالبة بأمور سياسية، كحق الحصول على الجنسية الجزائرية بالنسبة للمولودين في الجزائر قبل ,1962 وهو ما يفسر حسب الكثير من الباحثين والمختصين من المشتغلين على هذا الملف عن حجم ودقة المناورات التي تقوم بها جمعيات الأقدام السوداء بتحريض من بعض الجهات في فرنسا التي تسعى للاصطياد في هذا الملف، والعمل على تكوين جماعات ضغط اقتصادية ومالية وحتى سياسية أو إعلامية مستقبلا في الجزائر عن طريق الأقدام السوداء لتحقيق مشاريعها ومخططاتها، وليس أدل من ذلك وفود الأقدام السوداء الذين يحجون إلى الجزائر فرادى وجماعات تحت غطاء السياحة، لكن الأمر لن يقتصر بكل تأكيد على السياحة لأنه أكبر وأعمق وأخطر من ذلك بكثير.