الحرم القدسي الشريف والمقدسات المسيحية والإسلامية في القدس القديمة، هي موضوع المعركة الراهنة، في الصراع العربي الصهيوني الممتد, وهي معركة بدأت في صيف عام 2000 مع مباشرة مفاوضات الوضع النهائي في عملية التسوية الجارية، وقد خطط لها التحالف الإسرائيلي الأمريكي منذ بدء العملية وأطلق عليها اسم ''سلام الشرق الأوسط'' وباشرت الإدارة الامريكية تنفيذها في مؤتمر مدريد في .1991/10/30 هدف التحالف الصهيوني الأمريكي الرئيس في هذه المعركة هو اغتصاب الحرم القدسي الشريف، وفرض السيادة ''الإسرائيلية'' عليه, وقد تجلى هذا الهدف بجلاء في مفاوضات كامب دافيد الثانية التي جرت بين يومي 11 و.2000/7/25 ولا يزال طرفا التحالف المعادي يخوضان هذه المعركة بشراسة, فالطرف الإسرائيلي الصهيوني يشن حربا على الشعب العربي الفلسطيني في فلسطينالمحتلة في محاولة لإنهاء انتفاضته المباركة دفاعا عن المسجد الاقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية ولإنهاء الاحتلال ، وهي حرب صهيونية عنصرية فاشية شاهد العالم فصولها يوميا من خلال ما تنقله الفضائيات التلفزيونية منذ سبعين يوما, والطرف الأمريكي الطاغوتي لا يزال يدعم حكومة باراك في هذه الحرب على مختلف الصعد بالسلاح والمال والدبلوماسية في مجلس الأمن والجمعية العامة وخارجها. وتكشف التقارير عن أن الرئيس كلينتون لم يتخل عن أفكاره الضالة بشأن الحرم القدسي التي طرحها في كامب دافيد وعن طلبه من رئيس السلطة الفلسطينية نقل المسجد من مكانه لتمكين ''الإسرائيليين'' الصهاينة من إقامة هيكل هناك في مكانه, على الرغم من الغضب العربي والإسلامي الذي واجهه. سؤال يبرز أمامنا ونحن نخوض هذه المعركة فلسطينيا وعربيا وإسلاميا هو: لماذا هذا التركيز الصهيوني الأمريكي على اغتصاب الحرم القدسي الشريف بالذات؟ والإجابة عليه تسهم في حثنا على عصر كل أوراقنا وحشدها لكسب المعركة. العدو الصهيوني يلبس جريمته هذه وحربه الغاشمة ثوبا دينيا، فيعبئ اليهود في التجمع الإسرائيلي وفي مختلف أوطانهم الغربية على شعار إعادة بناء هيكل سليمان ويسمى الحرم القدسي ''جبل الهيكل''، ويعبئ مع اليهود أيضا اتباع كنائس مسيحية صهيونية منتشرة في الولاياتالمتحدة بخاصة. وحليفه الأمريكي ينساق على صعيد إدارة الرئيس كلينتون مع هذه التعبئة وجل أعضاء هذه الإدارة يهود صهاينة كما يتضح من الكشف الذي يضع أسماءهم، ولا يخفي رئيسهم تأثره بهم. ثلاثة أسباب حقيقية وراء هذا التركيز على اغتصاب الحرم.. السبب الأول اقتصادي .. وقد كشف الرئيس كلينتون عنه في حديثه في البيت الأبيض الذي نقلته جريدة اوتاوا ستيزن الكندية يوم 2000/1/21 وأشار فيه الى أن ''الموقع'' ويقصد الحرم ''سيصبح مقصد السياح الأكثر مردودا في التاريخ''، وهو يحاول إقناع ياسر عرفات بنقل المسجد منه. والحق أن العدو الاسرائيلي بمحاولة فرض سيادته على الحرم القدسي وعلى القدس القديمة داخل السور بمساجدها وكنائسها يريد أن يتحكم ويسيطر على الحج المسيحي إليها وعلى زيارة المسلمين إليها لتقديس حجهم, وهذا يعني ثروة طائلة مالية تأتي من اتباع الدين المسيحي والدين الإسلامي فضلا عن السياحة العالمية. السبب الثاني سياسي .. يتمثل في جعل القدس القديمة هذه بمكانها المتميز وتاريخها الممتد عاصمة ''الأبدية'' !! (على حد زعمه) يتحكم منها في عواصم دول المنطقة جميعها, وقد روى سياسي لبناني بارز أثناء لقاء في الأممالمتحدة بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982, كيف قام مناحيم بيغن رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك بدعوة الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون للقدوم الى القدس, فإذا به، كما كتب شمعون في مذكرات نشرها بالفرنسية, يتصرف معه وكأنه الملك سليمان، وكأن شمعون أحد ملوك ''الغوييم'' (الأميين) القادم, من ''صور'' لتقديم الولاء والخضوع لملك ''إسرائيل'' الجديد وتكفي هذه القصة لشرح هذا السبب الذي يتجسد في نظام الشرق الأوسط, ذلك النظام الذي سعت الولاياتالمتحدة لفرضه على المنطقة، وعملت من أجل ذلك على تجميع النظام العربي بغية إنهائه. السبب الثالث تاريخي .. متصل بالصراع الحضاري فاغتصاب الحرم القدسي والسيادة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في بيت المقدس يرمز الى انتصار الغرب الحضاري على الحضارة العربية الإسلامية، ويلبي عند قوى الهيمنة الغربية ''عقدة حقد تاريخي'' يحملونها في نفوسهم على هذه الحضارة منذ هزمت قبل ثمانية قرون الغزو الفرنجي. كما يلبي لديهم هدفا معاصرا هو إيقاف مدّ الصحوة الحضارية العربية الإسلامية التي أقلقتهم في العقدين الماضين، ودعت أمين عام حلف الأطلسي أن يصرح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات ان حضارة الإسلام هي العدو الذي يتهدد الهيمنة الغربية، وقد ذكرنا في حديث سابق كيف عبّر اللبني البريطاني وغورو الفرنسي عن عقدة الحق التاريخي تلك، حين دخل الأول القدس، ودخل الآخر دمشق. سؤال آخر يبرز أمامنا ونحن نستحضر حقيقة أن اليهود لم يثيروا أمر إعادة بناء الهيكل قبل قيام الحركة الصهيونية منذ بدأ التحالف الاستعماري الصهيوني تخطيطه لاغتصاب الحرم القدسي الشريف. الحق أنه إذا كانت المعركة الراهنة قد خطط لها هذا التحالف منذ الشروع في عملية التسوية التي أطلق عليها اسم ''سلام الشرق الأوسط'' عام 1991, فإن التخطيط لاغتصاب الحرم بدأ مع دعم بريطانيا الاستعمارية للحركة الصهيونية حال قيامها أواخر القرن التاسع عشر, وقد تولى باركر البريطاني عام 1911 رئاسة بعثة بريطانية لإجراء حفريات في منطقة الحرم, وفلسطين لا تزال جزءا من الدولة العثمانية, ولكن عمليات البعثة أخفقت نتيجة رد الفعل المحلي الفلسطيني، وإثارة القضية في مجلس المبعوث العثماني. وتروي لنا أ.د خيرية قاسمية في بحث متميز نشره الاتحاد البرلماني العربي عام 1998 مع معهد البحوث والدراسات العربية قصة هذا التخطيط، ومحاولة الشروع في تنفيذه إثر احتلال بريطانيا لفلسطين أواخر الحرب العالمية الأولى، فتحكي لنا كيف وصلت بعثة صهيونية برئاسة حاييم وايزمن الى الإسكندرية في 1918/3/20 ومنها الى القاهرةفالقدس فيافا, وكيف هيأ حاكم القدس العسكري ستورز البريطاني استقبالا حافلا لها وعهد برفقتها، وكان فيها عنصر من أسرة روتشيلد المرابية, وقد ركزت هذه البعثة على ثلاث قضايا: الأولى: إنشاء جامعة عبرية في القدس والثانية: تسليم حائط المبكى (البراق) في الحرم القدسي الى اليهود وثالثها: مشروع تملك أراضي. وتمضي خيرية قاسمية في بحثها فتعرض للضغوط الشديدة التي مارستها بريطانيا على أهل فلسطين العرب مسيحيين ومسلمين، وصمودهم أمامها، ومعارضتهم للمخطط الصهيوني الاستعماري. وقد دعت هذه المعارضة القوية كلايتون رئيس قلم المخابرات في مقر القيادة العامة للقوات البريطانية الذي أصبح أهم الأجهزة المنفذة للسياسة البريطانية في الشرق العربي, الى أن ''يتوقع مصاعب كثيرة'' بشأن القضية الثانية التي هي موضوع حديثنا, ''فحائط المبكى يقع الى جوار مسجد عمر, والممتلكات التي تقع مباشرة أمام حائط المبكى منوطة بوقف المغاربة'', وقد كتب كلايتون للندن قائلا: ''ان أي محاولة من جانب اليهود للحصول على ملكية الموقع ستثير موجة احتجاج تستغلها دعايات الأعداء''. وأشار الى ان الحاكم العسكري ستورز فاتح المفتي الشيخ كامل الحسيني بشكل خاص, فعارض تماما إجراء أي محاولة، وانتهى الى أنه من غير المرغوب اتخاذ أي إجراء حول هذا الأمر في الوقت الحاضر, ويمكن النظر به ثانية عند ظهور فرصة مؤاتية في المستقبل, وتذكر خيرية قاسمية في بحثها القيم أن كلايتون ذكر في رسالة بعث بها الى بلفور يوم 1918/8/31 أن ستورز حاكم القدس العسكري حاول إقناع المسلمين بالفائدة التي يجنوها من ضمان مبلغ كبير لملكية ليس لها قيمة كبيرة على حد قوله, ولكنه واجه معارضة شديدة، وتتالت عرائض الاحتجاج وقامت مظاهرتان عدائيتان, وتضمنت عريضة باسم الجمعيات العربية الإسلامية بالقدس الطلب من الحاكم العسكري البريطاني ''التخلي عن محاولات المقايضة لوقف أبي مدين (قرب المسجد الاقصى) مؤكدين انهم ومعهم جميع المسلمين قاطبة, لن يسمحوا بالمقايضة أو الاستيلاء على هذا المكان المقدس التقليدي الذي يلاصق جامع عمر. ما أشبه اليوم بالبارحة ستورز البريطاني يغري الشعب العربي الفلسطيني بالمال ليقبلوا تسليم حائط البراق لليهود الصهاينة، وكلينتون الامريكي يغري رئيس السلطة الفلسطينية بالأرباح الطائلة لينقل المسجد الأقصى من مكانه ويسلم بالسيادة الإسرائيلية على الحرم القدسي الشريف كله، والشعب العربي الفلسطيني يعارض أول مرة ويفجر ثورة البراق عام 1929 مرة ثانية وينطلق في انتفاضة الاقصى هذه المرة دفاعا عن مقدساته، تسانده الأمة في الدائرتين العربية والإسلامية. * المصدر/ المركز الفلسطيني للاعلام