نتجه إلى نهاية عام تاسع من قرن جديد، قرن بدا متطرفا في كل شيء إلا في العقلانية والإنسانية، قرن ميزه ومنذ سنته الأولي توجه صارخ نحو التطرف العصابي غير المسبوق، فقد نظمت وكالة استخبارات اكبر البلدان تسلحا في العالم وهو الولاياتالمتحدةالأمريكية عملية إرهابية غاية في الاستعراضية والدموية على أرضها وضد شعبها وممتلكاتها وأسقطت معلما تجاريا كان يمثل جزءا من تاريخ وثقافة المدينة والدولة على حد سواء، وببرودة أعصاب مميتة انهمك هذا البلد الأكثر تسامحا وتطورا في حرب كيشوتية ضد مجموعة من الأسماء كانت إلى تاريخ قريب موظفة في وكالة استخباراته وتقتسم رؤاه وتتقاطع مع مصالحه وعرف كل العالم الذي كان في جهاته الأربع على موعد مع القابلية لمزيد من التطرف، عرف أسماء ''بن لادن '' ''والظواهري'' ''والزرقاوي'' و''الحمراوي'' وآخرون انطلقت بورصة شهرتهم تحصد هشيم وسائل الإعلام وتسكنها في الوقت الذي تراجعت فيه شعبيات كانت تصنع الفرحة عالميا، طبعا فالوقت الآن للتطرف وفقط .... الحقيقة أن بداية القرن الماضي ميزها البؤس أيضا وشهدت حربا اعتبرت الأكثر دموية في تاريخ البشرية وسماها الجميع الحرب العالمية الأولى، كأن العالم ابتدأ منذ مئة عام فقط، ما يمكن أن يفسر بحالة مرضية تصيب البشر بجنون مؤقت يجتاح بدايات القرون، غير أن هذه الإحالات اللاهوتية واللامعقولة لم تعد تقنع، وأصبح الجميع ينخرط في التطرف دون وعي وضاقت مساحة العقل وانقلب العالم إلى علبة لصناعة وممارسة التطرف بكل ألوانه وأشكاله، وليس هذا كله بمستوى كارثة تهدد العقل البشري وتجعله يقبل التطرف والعنف من بين أفضل وسائل التسلية والانشراح... يتطرف صانع العاب الأطفال في فكره التجاري ويمعن في تطرفه لفهم معايير الربح والخسارة فيغرق سوق البراءة بمدافع وقنابل وخناجر والعاب نارية ومسدسات من كل الإشكال تهون العنف في لاوعي الطفل وتطيح بقيمة الروح الآدمية في نظره إلى اقل من سعر اللعبة بكثير ويتطرف الأب في حب ابنه فيشتري له المزيد من اللعب ويشعه على بداية تجريبها في جسم أخيه الطري ..ألا تنتهي لعبة الكبار السمجة عادة هكذا وحينها نسميها حربا... يتطرف السياسي الحاكم الباحث عن أمل البقاء والاستمرار فيعرض فكرة إلغاء الآخر على مواطنيه أو فكرة إلغاء رموزه ودينه ومخزونه الثقافي ويتطرف الجميع فيتبرؤون من الآخر المختلف ويناشدون السياسي بترحيله أو منعه من طقوسه أو منعه من مآذنه وأجراسه وصلاته ويقدم طبق ''الآخر'' المذبوح ملفوفا في رداء حماية الحريات وحقوق الإنسان طبعا دون إضافة '' المتطرف '' لماذا يصبح إنسان العصر ''السيليكوني'' متطرفا وعنيفا وغير مستقر ذهنيا وهو الذي يبدع يوميا ملايين خطابات التعايش والتسامح؟ ألانه يبدع كل ثانية أيضا ملايين المحرمات والخطوط الحمراء و مساحات الأنانية والجشع؟ المحرمات التي يحملها كل فكر بشري وتميز كل ثقافة آدمية هي المقياس الحقيقي لكل تطرف أو عنف فكلما قلص مجتمع ما أو فئة معينة اتساع دائرة المحظورات والخطوط الحمراء والممنوعات كلما اتسع أمامها هامش الحريات وتراجع خطر التطرف والعنف .. قرن ينغلق فيه الإنسان على نفسه ويستسلم لنزعة تطرف شاملة لم يعد معها يقبل التفاوض دون التلويح بإمكانية التوجه نحو الدمار والفناء في تناقض صارخ مع ما يبدو انه قفزة إنسانية نحو عالم أفضل وأكثر عقلانية على الشاشات الافتراضية، فهذا الذي يدق ناقوس الحرب ويجمع ما تبقى من قتلاه في قنينات زجاجية يبتسم بوسامة خادعة على الشاشة ويعدد محاسن السلم العالمي والتقدم الذي أحرزه شخصيا في هذا المجال... لم يعد مطلقا التطرف مرافقا المعنى الديني الذي ألحقته به عنوة وكالة الاستخبارات الأمريكية التي عاقبت كل دولة ارتأت فيها الخروج عن خطها بتفجيرات دموية تؤشرها بختم جماعة دينية معينة من بين مئات الأختام التي تملكها وطبعا بموافقة الجماعة المسبقة التي ستستفيد أطراف منها ماديا وأخرى من بعض الدعاية المجانية ولكن التطرف الذي بدأ دينيا انتشر وعم وأصبح دينا في حد ذاته والمصيبة انه يتجه ليكون ميزة إنسان العصر الجديد في عامه الجديد وقرنه الجديد. والخطر الحقيقي للتطرف انه لم يعد موقفا سلوكيا فرديا بل اتجاها ذهنيا دوليا تؤسس له الجماعات الضاغطة الصناعية الكبرى والتكتلات التجارية العالمية وتغذيه المقاييس العرجاء في التعامل مع مختلف القضايا البشرية في المقابل لا يبذل الإنسان أي جهد للتخلص من هذا السم وكأنه يستسلم لملذاته مثلما هو الأمر مع الغاز السم ذي الرائحة الزكية .. لقد فجر العقل البشري فقاعات المخاطر المستقبلية جميعها وتوقع أن تكون الأوبئة سببا في الفناء وتوقع أن تكون حرارة الأرض خطرا يهدد العالم وتصور مهالك متعددة تتربص بالبشر على مدى القرون القادمة ولكنه لم ينتبه لهاوية التطرف التي تهدد بابتلاعه وتنخر حضارته على امتداد خطها الزمني وربما لأنه خطر يأتي من الداخل من لاوعي الإنسان.. وحتى يستطيع الإنسان مواجهة وحش التطرف والعنف بضراوة فإننا لا نملك إلا أن نحلم... نحلم على الأقل بعام جديد يتراجع فيه التطرف يتراجع ولا يكون دينا مختارا أو مفروضا ...على فكرة... التطرف في الحلم يجعله غير ذي معنى......