1- لم يكن يتوقع أنه يعيش خريف عمره متسكعا في شوارع المدينة، وفي المدن عادة ما يدفن صوت الرجال، ليس من السّهل أن يلين رجل بحجمه وقد كان صوته مسموعا وكلماته لاترد، انطفأ الحلم فجأة، وانكسر الشموخ، وتوارى المجد في لحظات الغروب، انتزعوه من حقله كما تنتزع النخلة من منبتها، بعد أن جردوه من أرزاقه، وما ملكت يمينه، لم تطأ رجلاه من قبل درجا ولا صعدت سلما، ولا زاحم على ركوب التوابيت، لم يجد إلا هذه الساحة يتنفس فيها بنصف رئة هواء ثقيلا، يجلس إلى هذه الكائنات المتحركة ويلبس معهم شكل الميت بعد أن انمسخت مجالسهم، يتحسس بينهم غربة موشحه بأحزان هذه الوجوه الشاحبة، يمد يده في العتمة يتلمس ماضيه، يتماهى في حشد هؤلاء الصائمين عن الكلام، والذين لا يتحركون إلا كالأشباح، ليتصفحوا قرص الشمس المبتسم يجففهم كعباد الشمس، ويودعونه في مساءاتهم المتهالكة، حين يخف الضجيج، ويفيقون على وقع شقشقات أحذية العائدين إلى بيوتهم، فتدفعهم الحركة استجابة للغروب، ينصرفون متثاقلين والعصافير منتفضة من حولهم مزقزقة كأنها تودعهم، يلهث خلفهم وقد تشتتوا من حوله كحلزونات يفزعها السيل فتتشبث بالجدران وميت الأغصان، يرافقهم كالقطيع وهم يطوون في أيديهم أسمالا وأكياسا ليس فيها إلا فتاة من بقايا خبز الأيام الخوالي، وشيء من الحزن يختزن في شفاههم، لا يظفر منهم إلا بنظرات كليلة وآهات تضج شوقا، يطلق شهقات لتركب ظهر الريح ويحبس نظرته المقوسة، ولا يجاب إلا بصوت خفيض ... 2- ورغم المعاناة يبقي متشبثا بعاداته وسلوكه العفوي، يجلس حيث يشاء، يصرخ، يعوي في زحمة المارة يهز عصاه ولا يضرب، حركاته مزعجة، يهوم كأنه على حمار غبي، لا يهتم بهندامه ولا بترتيب ملابسه، حتى أنه بات يعرف بالشيخ المكوّش، نتيجة إفشائه سرا شتم فيه نفسه، عندما شكا أمر أبنائه بإلزامهم إياه استعمال حافظة الأطفال لما تضايقن منه الكنائن، رواد الأرصفة سوقة لا يرحمون، وما عساه يفعل وقد أهدر أخصب سنوات العمر في جمع الثروة وتربية الأبناء، وهل كان سعيه في نهاية المطاف مشكورا؟ فالزوجة الطاووس تنكرت له، وصارت شيئا آخر، فكأنها نشأت في المدينة، تغيرت لهجتها وملبسها، وانتظمت في جمعية محو الأمية، تداعب هاتفها الجوال في كبرياء وصلف، نجم في المناسبات، حتى أنها خرجت في تشجيع أنصار الفريق، وأقامت الولائم''شخشوخة''معبرة عن فرحتها وسعادتها الغامرة بانتصار الفريق الوطني لكرة القدم على الفريق المصري، وسار هو في ركب للشباب بحركاته العجيبة المتصابية يردد .''.وان تو ثري. * الطاووس هي همي''، ويطلقها في اليوم أكثر من مرة إلى أن طلقته، فكان عليه أن يبحث عن فراش آخر، فضاء يتنفس فيه شذى عطر الشموخ. 3- خرج الصبح مهرولا يقطع الطريق دون مبالاة، كانت الشوارع تعج بالمارة، والراجلون يسرعون خطوهم في اتجاهات ولأغراض يرومونها، وهو كالتائه لا وجهة له، يتوقف عند منتصف الطريق، يتلفت يمنة ويسرة، يجيل طرفه بكثير من الحذر، يغير الاتجاه وينسل في زقاق ضيق تتزاحم فيه الأقدام، يصغى في انتباه، منبهرا بالباعة المتجولين، يستأنس بكبار السن يبيعون ويشترون وهم مبتهجون، يتحدث إليهم بكبرياء، ويتشهى أن يكون مثلهم، يشمئز من النسوة اللواتي يضحكن ويتحدثن إلى الرجال وهن في السوق متبرجات، هذا أمر لم يألفه، لذلك غلب عليه الاضطراب، وطفق يتمتم في غير طائل، فجأة توجهت إليه فتاة، واندفعت تركض خلفه وتناديه.. توقف حين بلغ زاوية الشارع، همست إليه، هل أنت عمي بلقاسم ؟ فيجيبها وهو يستدير نحوها بسرعة، أجل أنا بلقاسم .. فمن تكونين؟ يتحاشى أن تكون العيون مصوّبة نحوه، يتظاهر بالهدوء واللامبالاة، ماذا تريدين؟، فتجيبه في ابتسامة باهتة وصوت ندي.. هل أعجبتك المدينة؟ فيجيبها متذمرا: المدينة تعجب أهلها، إنه يقتل الوقت والوقت يقتله، هو في احد سجون الديمقراطية والتفتح، وترتفع ضحكاته متقطعة: عصرنوني فلم أتعصرن وأنا لا أصلح لذلك.. سعدت بحديثه إليها وتواضعه وجعلته يطمئن ويتخلص من اضطراباته، فدعته إلى الجلوس على إحدى المقاعد الخشبية قبالة المقهى ونادت النادل بإحضار فناجين القهوة وبعض المشروبات، وانضمت إليهما والدتها الأرملة، وهي امرأة جميلة، شاحبة الوجه، ذات ملامح جذابة، والتفاتات حلوة، تخلى عنها إخوتها، وصارت سلعة بائرة، لم يخف سعادته وابتهاجه بجلسة مشتهاة، لكنه أحس أنه يذوب خجلا وهو يجالس النساء، لذلك جعل صوته رقيقا هادئا، ورأسه منكسا، فمنذ أن دخل المدينة لم يتلق دعوة كهذه، ولم يحظ بهذه المعاملة الطيبة، ولذلك مضى يحدثهما بمرارة عن همومه ويشكو إليهما أمر أبنائه وزوجته التي تخلت عنه، إنه ينوي العودة إلى حقله إذا وجد ابنة الحلال التي ترافقه، تدير السيدة عينيها في البياض وترمق ابنتها بنظرة من جانب عينيها، ثم تغير ملامحها.. المفاجأة عقدت شفتيها فأصاخت السمع ولبث الثلاثة ساكنين هنيهات... بلقاسم متلهف إلى الدنيا، والأيام أتعبته، وصارت تقتل طيوفه، وعدته الفتاة بأن تحقق له العودة وتضحك أسنانه، يستوي متطاولا منتفخا كالديك يبحلق بعينين وضاءتين وهو يتهيأ للانصراف، يداعب شنبه منتشيا في الصباح ظهرت صورة بلقاسم على صفحة الجريدة، فتهافت سكان الحي على شرائها واعتبروا ذلك حدثا كبيرا، لكن العم بلقاسم فاجأ الجميع باختفائه، فأين ذهب؟ ولماذا؟ لعل الاختفاء كان مبرمجا .. طاش الخبر أسماع أبنائه، بأنه تلقى دعما فلاحيا، وقضى الله أمرا كان مفعولا، الفتاة هيأت له ظروف العودة إلى حقله، وزوجته بأمها، اختارت وريدة الريف موطنا وهي ابنة المدينة وتخلصت من الصخب وبؤس الحياة ليصبح لها معنى، يا سبحان الله الطاووس البدوية تحضرت بينما وريده الحضرية تريّفت، انقلاب صارخ في الحياة، استعاد بلقاسم ودائعه شويهات عجاف، وبقرة عطشى جائعة استردها من لهاث الأيام الضائعة، وجرار تآكلت جوانبه كجمل أجرب ومحراث صدئ كقطع أثرية، امتلك سيارة نفعية مهترئة كأنها من بقايا العهد الحجري، لم يكن يتوقع أن حياته تتغير بهذا الشكل المفاجئ، ينجح في استقدام الفقراء ويستعين بهم في خدمة الزراعة وتربية الدواجن، وتجعل وريدة من نساء الحي رفيقات، ويبقى يذوب في الماضي ويتأذى بغربة المكان، يجلس كل مساء قدام الحوش يتوسد الأطلال، متجشما عناء افتقاده العيال، سائلا متسائلا.. يحتويه الحزن حينا، ويسرح أحيانا أخرى بخياله بعيدا، ويفزع يشكو قسوة القلوب التي ران عليها الجشع وحب الدنيا، يمني النفس بأن الدهر يغطي ما حفرت الأيام من عميق الجراح، لتبقى الأخاديد تنبئ بأسرار الذكريات، تهديه الزوجة طفلا فيبتهج ويسعد، لكن قلبه يبقى معلقا بأبنائه إلى أن تحدث المفاجأة.. الطاووس تعود إلى الحقل، وكأنها عائدة من مقبرة الحياة، وفي عودتها قصص.. يبدو أن الكنائن تحالفن ضدها وهزمنها، وإلا فما هي قصة مجيئها بيت بلقاسم وقد طردته؟ تبدو تقاطيع وجهه المتجهم متضخمة وبلحظة مسروقة يستقبلها مرحبا، لاشك أنه يعرف مايدور في خلدها بشكل حدسي إلا أنه يتغابى، فهل ترضى وريده بالطاوس ضرة؟ نسوة الحي يتبادلن الهمس وفي حديثهن تحذير.. الطاووس سليطة اللسان لاتركب إلا الصعب من الإبل.. هذه حقيقة.. فهل تصمد وريده أمام زوابع ستحركها؟ أم ترضى بها خصما وبلقاسم حكما؟ أم تتهيأ للمواجهة.. لكن الحرب لعبة وهي لاتحسن فن اللعب؟ المفاجأة ألجمتها.. وأطفأت جذوة أحلامها المتوقدة، فعليها إذاً أن تصمد وتلتزم الحذر وتصمت إلى حين وفي الصمت فوائد ....