لا تأسفن على غدر الزمان لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب جمعتنا به مناسبات، وهو من هو؟ طاقة إبداعية متميزة، مشروع ثقافي ناضج، أسلوب فني حواري سردي متألق، بصمات إبداعية مثيرة، تشكيلات حوارية لغوية تواصلية شديدة الغرابة، طرح حي من رجل حي وإحيائي، العروبة تجري في دمه وعروقه، والوطنية عنده عمل وليست شعارات تلبس، هو كاتب مكثر من عصارة قلمه ومداد كلماته، كتب وتناول أحوال الأمة واهتمامات المسؤولين وهم في سدة الحكم وطفق يلاحقهم في منفاهم، ليكشف في هذا الكتاب القيم المقروء حقائق وأسرارا ''.. وزراء بين السعادة والشقاء..'' صادر عن دار هومة ..2008 إنك تقرأ وتكتشف كاتبا مبدعا يمتلك روحا أدبية محلقة. يستهوي القارئ والدارس بمفاجآته المتوثبة وادهاشاته المبهرة، وأسلوبه المتميز، وليس أمرا سهلا أن يتوغل كاتب في نفوس المسؤولين ويحاورهم بهذه اللباقة، ويجعلك تنفذ إلى أسرارهم وبعض الخصوصيات التي يصعب على المرء الوصول إليها واكتشافها إلا بشق الأنفس، اللهم إلا إذا كان محاورا بحجم الكبار، فكتابات السيد بوكريش متفردة بحقائق تجعلك ترتع في نبض الحكاية وتسعد، والكتاب المقروء هو امتداد لكتابه القيم ''يحدثونكم.. شخصيات ومواقف وأسرار حقيقية..'' صادر عن دار هومة ,2007 وسبق للكاتب أن أمتع القراء بقصصه الرائعة والمثيرة''.. عندما يعشق معالي الوزير..!'' وهي من ذات الوزن، وكان لنا الشرف أن نشرت لنا جريدة صوت الأحرار المحروسة قراءة عنها انظر العدد 3040 بتاريخ 21 - 02 - 2008 إنه الإعلامي الكبير الأستاذ رابح بوكريش الذي يكتب بموضوعية وثبات، وينتقي مادته بذكاء ومن الواقع المعيش، يقفز من خلال موضوعاته الدسمة فوق الأمكنة، ويقفز فوق الأزمنة، ويحفر في جدران الأيام قصصا من حياة الوزراء وكبار المسؤولين الذين نفضوا أيديهم من غبار المسؤولية، ثم تبعثروا وتواروا خلف سحب السياسة الداكنة، وعواصفها الهوجاء، بعد أن ملأوا الدنيا حديثا وتزينت بهم الواجهة السياسية وتزينوا لها ردحا من الزمن، وبعدئذ أنكر الكون صورهم، ونسي الناس أسماءهم، وهجرهم الأصحاب ومن كان يتودد إليهم ويقف في حضرتهم متملقا، وتنكّر لهم الذين كانوا يركضون وراءهم، ويهدونهم فرص البقاء والخلود، ويمنحونهم الكراسي، ولما تغيرت الأحوال استبدلوهم بين عشية وضحاها، وللأسف لم ننتبه بعد لهذه الطحالب، والكاتب يعتبر مسار هؤلاء الوزراء عبرة، ويقدم لنا إضاءات في سرد يشبه القصة، يحمل في ثناياه كثيرا من معاني الحياة والتجارب الإنسانية الواعية، ولا غرو فالسياسة فن الممكن، وبكل جرأة وصدق وإخلاص ووطنية يقدم لنا محاوريه وكلهم من أصحاب القرار ليجعل منهم نماذج، بل متكأ لإبراز جوانب من الحياة السياسية في الجزائر بعد مرور عقود من الزمن، وتراه يسألهم مجاملا أسئلة تجبر الخواطر ولكنها من وحي المنابر، لماذا لم يتحقق حلم المصلحين والثوريين والتصحيحين؟ ولماذا لا يوجد انسجام بين المسؤولين؟ ما هي أسباب الإخفاقات؟ وأين هي القوى الضاغطة؟ هذا الشبح الذي ليس له اسم ولا مسمى في القاموس السياسي، والجواب ينتظم من خلال محاورة شخصيات تركوا الكراسي، وراحوا يعيشون حياة عادية إما مثقفين منتجين أو متأسفين غاضبين، يلامس من خلال هذه الجولات الحوارية أكثر الموضوعات إثارة والتي لم يقترب منها الإعلاميون وزهدوا فيها، حقائق عذراء ماتزال تتأجج في أعماق الوزراء، وتتصارع بين دفتي المشاعر والوجدان.. تهميش ونسيان جعل البعض يشعر بالإحباط لما رسم الزمن خطوطه على عهدهم وانطفأت مصابيحهم في الحياة السياسية، وقد كانوا أطرافا فاعلين وشهودا على مرحلة اجتازتها الأمة الجزائرية، ينقلنا السيد بوكريش في كتابه القيم والجدير بالقراءة المتأنية ''.. وزراء بين السعادة والشقاء..'' ينقلنا من التاريخ إلى السياسة عبر مسافات للمناقشة وسرد مرويات أبطاله، متحدثا بالقلم العريض عن بعض السلبيات الطافحة على مكبوتات السياسة والتي أفضت إلى التمرد عن الذات والتزام الصمت خوفا من انقطاع الأرزاق، ''.. والحكم على الشيء فرع عنه..'' وما تضمنه الكتاب من حقائق تستوجب التأمل، وتستوقف القارئ الفطن لمعرفة ما فيها من حقائق وأحداث تشكلت بفعل فاعل، ولعله صاغها للموعظة والعبرة لمن أراد أن يعتبر، إذ الزحف خلف الكراسي كان ولا يزال الهاجس الذي يشغل الإطارات ويلهيهم، والغاية من ذلك الظفر بالمنصب، والكثير يتوهم أن المهام كالوظائف، والمتوهم ينزلق في متاهات الأبهة والعظمة، وأنت تقرأ الكتاب ثانية تكتشف أسرار الحكم في الجزائر، كيف يكون المسؤول داخل السلطة؟ ثم كيف يكون خارجها؟ حتى التفكير لديهم يتغير، فالكل يحلم أن تبقى له امتيازات الكرسي، ويسوؤه أن يتزحزح قيد أنملة، والبعض يعيش الجحيم إن زحزح لاعتقاده أن حرمانه من الامتيازات حرمان من الحق في الحياة، وإن تصفحت الكتاب فمن العنوان تقرأ النص، فهو يرى بأن الوزراء المنتهية مهامهم هم بين السعادة والشقاء، وهذا يعود إلى عدم الوعي وبعد النظر والتشبع بالثقافة القيمية والوطنية، إذ المثقف الحقيقي لا يشعر أبدا بالفراغ وليس لديه وقت ليفكر في الخزعبلات، ويضرب لنا مثلا من الوزراء الذين قدموا استقالاتهم في عز العطاء وكانت لا ترد لهم مطالب ولا تشطب لهم خطب، وإن تصفحت الكتاب تجده من الحجم المتوسط ويشتمل على (33) ثلاث وثلاثين موضوعا بألوان الطيف وهي مثيرة، سيما وقد وشحها بشخصيات أجنبية، فالسيد اسماعيل حمداني يرى في المسؤولية عبئا ثقيلا، وقد انصرف من تلقاء نفسه، والكاتب الكبير محمد الميلي يشترط أن يتولى الوزارة لمدة سنة فقط، والسيد محمد جغابة استفاد من العفو عن مساجين الرأي وأصبح وزيرا واستقال، أما السيد عبد العزيز رحابي فيرى بأن العلماء ضمير الأمة، وأن اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب حلقة مفقودة في العالم العربي، أما مجيد الوزير المقال فتراه متأسفا ويقول: لم نعط فرصة للشباب وكسرنا أجنحتهم وتركناهم فريسة لليأس، بينما أحمد الوزير المتألق يعيش لنفسه متنكرا لواقعه فجأة تسقط حكومته، فيعيش معزولا منبوذا وذات يوم وجد ميتا في الحديقة، أما معالي الوزير الذي أبكته المطربة أحلام ونسي نفسه فهو يرقص في الحفل ولا يبالي، ويحدثنا عن الوزير ذي المشهرتين الذي انتهت مهامه فاختفى عن الأضواء لأنه وقف في المعارضة ويرى بأن الثقافة هي مصدر القوة ولكنها غائبة، أما الطالب الذي تخلى عن الدراسة والتحق بالثورة قد تقلد حقائب وزارية، وسفيرا. استغني عنه وهو يضع اللمسات الأخيرة لكتاب عن الثورة ''الطريق الشاق إلى الحرية'' أما الجنرال الذي لم يتنكر لأهله فإن تواضعه وسداد رأيه أكسبه حبهم وعاد إليهم متقاعدا ولم يكترث بأصحاب المصالح الذين هاجروه، ويحدثنا عن الوزير المتسلل إلى السلطة الباكي عنها لما شطب اسمه وتخلى عنه الناس بقي يفكر في المسؤولية وهو على أبواب الموت، وهو من الذين شوهوا السلطة وأساءوا إلى الوطن، وعن وزيرة الأسرة سابقا يقول إنها تحترم نفسها وتمقت الايديولوجيات السطحية والتطرف وترى أن العلاقات بين المسؤولين معطلة، ويواصل حواره الشيق فيقول، من الوزراء من استعمل الشيوعية للوصول إلى السلطة، ومنهم من احتكر التأشرة، لكن منهم من منع من الدخول إلى حفل بل من الجلوس، ومنهم من وقف في الطابور للحصول على علبة قهوة وقارورة زيت، وهناك وزير تردد على عجوز ساحرة تقرأ له الفنجان وتمنيه بالعودة إلى الوزارة، بينما أحد المسؤولين أصبح مدمنا على الخمر يعيش بين الملاهي ومراكز الشرطة، وهذا وزير عزل فذهب إلى الحديقة يتسلى بالحمائم تنقذه زوجته من الضياع فيعود إلى عالم الكتابة متطلعا إلى عهد جديد، ويتساءل هل السياسة تتماشى مع البزنسة؟ ويتحدث عن وزير تخلى عن السياسة وكون جمعية ثقافية، وعن رجل مثقف كان يحلم أن يكون وزيرا فتحقق حلمه، ولعل استبدال الأحزاب للوصول إلى المبتغى مؤشر على أزمة الثقة وعلى وجود انسداد سياسي خطير، وأن الدخول إلى السلطة والخروج منها دون مؤهلات هو سبب أزماتنا، والدليل على ذلك أن وزيرا يطلب منصبا أقل عندما تخلى عنه الصحب ليموت كمدا، ويحدثنا عن الوزير الذي يبحث عن زوجة ثانية لأن امرأته لا تجود عليه بابتسامة، أما المسؤول الذي أغرته برازيلية فتخلى عن الواجب وتاه في الحلم وبالمقابل نجد وزيرا هولنديا يكتب ويقرأ بنهم ويعرف كل شيء عن المسلمين وعن الجزائر ويغسل ملابسه بنفسه ويخدم دولته بإخلاص، أما الرئيس الفرنسي شيراك فهو الإنسان الذي فرض نفسه فأحبه الجزائريون، ويحدثنا بأن قوة أمريكا تكمن في قوة حكامها، وأن لا وجود للانتهازية والمحاباة عندهم، بينما ترى عندنا وزيرا يعيش حياة مملة ويجلس في مقهى شعبي كئيبا، ويحدثنا عن اليمن ورموزه الثقافية والموروث الثقافي، ثم يعود إلى الحديث عن وزير شغلته كاتبته فتخلى عن أسرته وعن أداء الواجب ويخلص إلى القول إن ''..الحاكم العربي عند تنحيته من منصبه يصبح كسمك السلمون، يبذل مجهودا كبيرا ليعود إلى منبعه الأصلي وما إن يصل إليه حتى يموت.. ولله في خلقه شؤون..'' الخلاصة: هذه المسالك والسراديب التي سلكها كاتبنا ربما لا يلتفت إليها أحد، فهاجس البحث والتحاور والمساءلة من المقاربات التي تجعل الملتقى يساهم في استنباط الحقائق بنفسه بواسطة توظيف مكتسباته القبلية وإعادة إدماجها وذلك أسلوب تربوي رائد، وإذ يبحر بنا الأستاذ بوكريش في نهر من المشاعر الإنسانية النبيلة والجياشة، فإنه يقربنا من الحقيقة، وفي ذات الوقت يمنحنا قدرة على الفهم والمبادرة والتبادر إمارة المعرفة كما يقال، إنه يجعلنا نتوغل في تضاريس الجرح العربي لنطل من شباك الذاكرة ونحدث في هذا الجسد المريض الذي صار آهات بكماء، ونرى أن السراب لا يملأ أماكنه، ونحدق ثانية في الثغور الباسمة لنسعد بالرجال الأوفياء أصحاب المبادئ والوطنيين النزهاء وهم يسعون في صمت للمساهمة في ترقية الأمة وتنمية قدراتها وخدمة الأجيال، حينها نسعد وعندئذ نقول: ''.. رجال خلقوا لحروب وآخرون لقصعة من ثريد...'' وعلى الله قصد السبيل محمد الصغير داسه مفتش في التربية متقاعد