لم تكن قطرات المطر ولا برودة الطقس كافية لتمنع تواجد عشرات المتسولات من الانتشار عبر مختلف شوارع العاصمة رفقة أطفال لم يتجاوز أكبرهم الأربع سنوات وأغلبهم، مع الأسف، كانوا رضعا تحاول أمهاتهم جاهدات تغطية أجسامهم بقطع قماش بالية لكسب عطف المارة ومنحهم بعض القطع النقدية التي تطلبها الأمهات لاقتناء حليب للرضع كما يدعون ذلك. تتواصل ظاهرة التسول في الجزائر وتمتد لتشمل فئات ضعيفة من المجتمع هم الأطفال والرضع الذين وجد أولياءهم فيهم فرصة سانحة لاستعمالهم في كسب عطف المواطنين. ولم يمنعهم فصل الشتاء وبرودة أجوائه من وضع أطفالهم على جوانب أرصفة الشوارع الرئيسية وافتراشها رفقتهم لأغراض مختلفة، ورغم أن برودة الطقس والأمطار أنقصت من حركة المواطنين في الشارع إلا أن فئة المتسولين لاتزال وفية لأماكنها المعتادة ولا تغادرها إلا نادرا، والمدهش أن بعض الأمهات صنعن لأنفسهن خيما صغيرة تقيهن رفقة أطفالهم الأمطار المفاجئة. ففي شارع ميسوني بالعاصمة لا تزال، ومنذ سنوات، إحدى المتسولات تفترش الأرض رفقة أطفالها الأربعة الذين لا يتجاوز أكبرهم سن السادسة من العمر مقابل إحدى المخابز ربما لاقتناص قليل من الدفء الخارج من بوابة المخبزة، لم تمانع هذه السيدة في الحديث إلينا عندما اقتربنا إليها حيث أكدت أنها متزوجة وتأتي إلى حي ميسونيي يوميا، حيث تقطن بإحدى الأحياء القصديرية ببلدية الحراش، حيث أكدت أنها تحضر رفقة زوجها إلى هذا المكان يوميا ويتركها رفقة أطفالها من اجل التسول. وعن حالة الجو التي لا تسمح بمكوث أطفال رضع تقول الأم إنها لا تستطيع عصيان أوامر زوجها وإلا سيكون مصيرها الضرب المبرح هي وأطفالها، لذلك تعمد إلى طاعة زوجها وتعمل على إلباس أبنائها جيدا وتغطيتهم حتى لا يصابوا بالأمراض، لكنها تؤكد انه ورغم كل الاحتياطات التي تتبعها لتقي أبناءها من أمراض صدرية مختلفة إلا أن ذلك لم يجد نفعا، ولم تتمكن من إقناع زوجها لحد الآن من إبقائهم في البيت. طفل مقعد يطعم ثمانية أشقاء تكاد الصور التسول بالأطفال لا تغيب عن شوارع العاصمة والمدن الكبرى. أطفال رضع، معاقون وأمهات لا يتوقفن عن طلب المعونات لاقتناء حليب لأطفالهن أو شراء الخبز لمن هم أكبر سنا قليلا. ومن بين العينات التي التقيناها صدفة كانت لرجل يتسول بنصف طفل إن صح التعبير، طفل لا يتعدى عمره العشر سنوات مقعد على كرسي متحرك لا يملك أطرافا سفلية. يقول والده إنه قدم من أحد الأحياء القصديرية المتاخمة للعاصمة أخذ يبرر لنا سبب تسوله بطفل في هذه الحالة دون أن نسأله، حيث أكد لنا انه عاطل عن العمل وأب لثمانية أطفال والذي نراه الآن هو تاسعهم. وأضاف هذا الرجل القادم من إحدى الولايات الداخلية أن ظروف الحياة حتمت عليه اتباع هذه الطريقة التي وجدها أكثر ملاءمة لكسب ود وتعاطف الناس. وأضاف هذا الرجل الذي رفض ذكر اسمه أنه اخرج أبناءه من المدرسة لعدم تمكنه من تغطية مصاريفهم اليومية وأدخل بعضا منهم في التسول لكنه وجد أن التسول بأخيهم المعاق أكثر فائدة وتحصيلا للنقود خاصة في الأيام الباردة. أطفال غير شرعيين في سباق التسول أنتجت بعض الظواهر الاجتماعية السليبة فئات من المتسولين من نوع جديد لم تكن موجودة في السابق، فلا ينفي الكثير من المواطنين تواجد فتيات في مقتبل العمر رفقة طفل رضيع في الشارع. فالهروب من البيت يجعل الفتاة ضحية لواقع لا يرحم والنتيجة الحتمية اعتداء وحمل غير شرعي وأمهات عازبات يتحولن مع مرور الوقت إلى متسولات أمام المصاريف التي تتطلبها تربية طفل حديث الولادة. وفي هذا الخصوص تؤكد إحدى المتسولات التي استوقفتنا لإعطائها مبلغا من المال لشراء حليب لطفلها الرضيع، ويبدو من لهجتها أنها قادمة من إحدى الولاياتالشرقية. كانت متحجبة صغيرة السن لا تتجاوز الثلاثين من عمرها لم تمانع في سرد قصتها علينا، حيث أكدت أنها هربت من البيت بعد مشاكل حدثت بينها وبين زوجة أبيها وإخوتها لتجد نفسها عرضة للشارع ومخاطره، حيث لم يتركها الغضب تفكر في عواقبها جيدا. وهي، كما قالت، تتسول اليوم رفقة طفل رضيع لم يتجاوز سنه العام الواحد. وتؤكد أنها ليست وحدها فالكثير من زميلاتها اللاتي امتهن حرفة التسول هن أيضا أمهات عازبات، والمؤسف أن الكثير منهن يملكن أكثر من طفل، وترجع هذه المتسولة ذلك إلى الظروف السيئة التي رمت بهن إلى عالم لا يرحم جعلهن يفكرون في التسول بأطفالهن لإطعامهم. ...ومواطن سئم من نفس المناظر لم يعد منظر المتسولين يثير استغراب المواطنين بعد تعودهم على رؤية مناظر جديدة لأشباه المتسولين كل يوم، وحتى دخول أطفال حديثي الولادة إلى ميدان التسول لم يعد يثير دهشة المواطنين ولا حتى شفقتهم إلا نادرا، نتيجة الكم الهائل من أعداد المتسولين خاصة النساء منهم اللاتي يفترشن الشوارع الرئيسية كل يوم رفقة أطفالهن. ويؤكد عدد من المواطنين الذين تحدثنا إليهم أنهم أصبحوا غير قادرين على التفريق بين المحتاج الحقيقي والمزيف، حيث أكد الشاب طارق من حي باب الواد الشعبي انه لا يستطيع تقديم مصروف جيبه يوميا إلى متسولات دخلهن اليومي يفوق دخله الشهري، كما انه لا يستطيع الإشفاق على طفل لم ترحمه أمه وتخرجه في أيام البرد والمطر والحرارة في فصل الصيف، ويكاد يجزم طارق متحدثا إلينا انه يشك في أنهن أمهات حقيقيات للأطفال، فقد سمع كثيرا عن قصص خطف الأطفال للتسول بهم أو تأجيرهم واقتسام الأرباح رفقة أوليائهم الحقيقيين خاصة المعاقين منهم. التسول بالأطفال نوع من الاستعباد كشف البروفيسور مصطفى خياطي رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث في حديث خص به ''الحوار'' ان ظاهرة التسول بالأطفال الرضع والمعاقين يعتبر استعبادا لهذه الفئة الضعيفة. ورغم ان الجزائر وقعت على الاتفاقيات العالمية لحقوق الطفل، إلا ان ذلك لم يغير ولم يحسن من واقعهم المعيشي، وأكد ان التسول بالأطفال يندرج ضمن نشاطات عصابات مختصة تقوم بتأجير الأطفال بغية تحقيق الربح المادي عن طريق عرضهم في الشارع بصورة تتنافى مع القيم الإنسانية. وأضاف البروفيسور خياطي أن هذه الظاهرة المشينة بدأت تستفحل بشكل كبير وسط المجتمع الجزائري وعبر كافة الولايات دون استثناء وأصبحت تستدعي تدخلا فعليا وردعا صارما من قبل السلطات لمثل هذه السلوكات التي أصبحت شوارعنا وأبواب مساجدنا مسرحا لها. وعن سبب استفحال الظاهرة أكد خياطي ان الأمر راجع إلى غياب عناية حقيقية من قبل المؤسسات بالفئات الهشة والمهمشة، ناهيك عن غياب دور الجمعيات المدنية. وطالب البروفيسور خياطي بإيجاد أمكنة لإيواء المتسولين الحقيقيين وإعادة تأهيلهم والعمل على إعادة الأطفال إلى المدارس وتوفير مناصب عمل وإعانات لأوليائهم. ومن أجل التخفيف من حدة هذه الظاهرة خاصة ونحن في فصل الشتاء، حيث لا يجد أولياء الأطفال حرجا من إخراجهم إلى الشارع للتسول، أصر البروفيسور خياطي على ضرورة تحسيس كل الجهات الوصية بالوضعية المزرية التي وصل إليها الأطفال في المجتمع الجزائري.