كثيرٌ من الناس يسألون بين الحين والآخر عن السبب في أنهم لا يجدون لذة العبادة عندما يُقْبِلُوْنَ بها إلى الله عز وجل، يحاولون أن يتمتعوا بالخشوع ولا يتأتَّى لهم ذلك، يحاولون أن تكون مشاعرهم متجهة إلى الله عز وجل في وقوفهم بين يديه ولكن لا يتأتَّى لهم ذلك، وتشرد بهم أفكارهم ذات اليمين وذات الشمال. والجواب أن السبب في ذلك ''حجاب النعم'' التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على عباده كالقوة التي يتمتعون بها، والغنى الذي يكرمهم الله عز وجل به، والمعارف والعلوم التي يمتعهم الله سبحانه وتعالى بها، من شأن هذه النعم أن تنسي الإنسانَ ضعفَه، أن تنسي الإنسان عجزه ومخلوقيته ومملوكيته لله سبحانه وتعالى وأن تزجه في وَهْمٍ من الاستقلال بالذات، في وهم من الغنى والقوة الذاتية.. ومن ثم فإن هذا الذي يقف بين يدي الله عز وجل وقد حُجِبَ عن الله سبحانه وتعالى بهذه النعم ينسى حاجته إلى الله وينسى فقره بين يدي الله عز وجل، فما الذي يجعله يخشع وهو يتخيل ويتصور غناه واستقلاله؟ ما الذي يجعله يدرك أنه بين يدي الله وأنه يخاطب الله وأن الله يراقبه وأن النعم التي يكرمه الله عز وجل بها تطوف بالنشوة في رأسه؟ هذا هو السبب، ولكن ما العلاج؟ العلاج أن يعلم الإنسان أنه كتلة من الضعف والعجز، وأن الفقر هوية ذاتية موجودة في كيانه، وأن النعم التي يتمتع بها أياً كانت إنما هي عوارض تأتي اليوم وتذهب غداً. إن الذي أبرز الإنسان إلى الوجود إنما هو الخالق عز وجل، أوجده عارياً إلا من فقره، تائهاً إلا من ذله، عاجزاً بل جاهلاً إلا بضعفه. إذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة وعلم أنها هي هويته دائماً مهما رأى نفسه غنياً ومهما رأى نفسه قوياً ومهما رأى نفسه متمتعاً بالمعارف والعلوم؛ فإن إدراكه لهويته يجذبه إلى الخشوع بين يدي مولاه وخالقه، وانظروا إلى هذا المعنى كيف جسده بيان الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء:28]، أي إن الضعف وُجِدَ مصاحباً لِخَلْقِ الإنسان ولم يأت من بعد الخَلْقِ. وانظروا إلى قوله سبحانه وتعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف}، أي كينونته هي الضعف ذاتها، وإنما يريد الباري عز وجل من هذا أن يبين لنا أن نعمة القوة ونعمة العلم والرفاهية والغنى ما ينبغي أن ينسينا كل ذلك الهوية التي خُلِقْنَا بها، ينبغي أن نعلم أن هذه النعم الوافدة إلينا إنما هي عوارض، والعوارض تأتي اليوم وتذهب غداً. هذا هو العلاج الذي ينبغي أن يأخذ الإنسان نفسه به، فإن هو فَعَلَ ذلك تخلص من هذه المشكلة التي يشكو منها. ولننظر أيها الأحبة إلى بالغ لطف الله سبحانه وتعالى إذ يبتلي الإنسان بين الحين والآخر بالابتلاءات المتنوعة كالمرض يبعثه في جسمه، وكالفقر يبتليه به بعد الغنى، وكالضعف يبتليه به بعد القوة، والاضطراب يرسله إليه بعد الأمن والطمأنينة، وصدق الله القائل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الانبياء:35]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155].. لماذا؟ أين هو مظهر اللطف الرباني في هذه الابتلاءات؟ مظهر اللطف أن مولانا جلَّ جلاله يحب منا ألا نَسْكَرَ بالنعم التي يغدقها علينا وألا تحجبنا هذه النعم عن مراقبته، وألا تنسينا هويتنا أننا مخلوقون من الضعف وآيلون إلى الضعف، كيف السبيل إلى ذلك؟!! لوكانت النعمة مستمرة دائمة إذا لكانت حاجزاً ولأنستنا هذه النعم هوياتنا وضعفنا، ولكن الله عز وجل عندما يبتلي عباده بين الحين والآخر بهذه المصائب يخفي المال والغنى ليرسل إليه عوضاً عنه الفقر، يخفي ويستل منه العافية ليرسل إليه نوعاً من الأمراض، يستل منه الأمن الطمأنينة ليرسل إليه طائفاً من الخوف والاضطراب لكي يصحو الإنسان بهذا إلى حقيقة أمره وليعلم أن هذه النعم التي تفد إليه إنما هي كما قلت لكم عوارض، والنعم العارضة لا يمكن أن تحل محل الهوية الإنسانية الأساسية، ربنا عز وجل يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]، أي أنك يا ابن آدم ضعيف في كينونته، كتلة عجز في هويته، أما النعم التي تُسْكِرُكَ بين الحين والآخر فإنما هي عوارض أرسلتها إليك؛ فلا تحجبنك هذه العوارض عن هويتك. إذا علم الإنسان هذه الحقيقة وأدركها لاسيما عندما يجد المحن التي تمتزج مع المنح والنعم فلسوف يزول هذا الإشكال ولن يسأل هذا الإنسان سؤاله هذا عندما يعلم عجزه.