تعهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، خلال حملته الانتخابية للوصول إلى الرئاسة، بإصدار قرار يعتبر مذابح الأرمن إبادة جماعية، لكنه رفض الحديث عن الإبادة، فور توليه الرئاسة، في تحذير أنقرةلواشنطن من خطورة ممثل هذا القرار. وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، إنه يشعر بقلق شديد بخصوص إمكان أن يلحق هذا القرار غير الملزم، الكثير من الضرر بالعلاقات التركية الأمريكية، وبجهود تركيا لتطبيع العلاقات مع أرمينيا. مذابح الأرمن ..حجر عثرة في وجه العلاقات الأمريكية التركية من المرجح أن يؤدي اعتماد لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، للقرار بأغلبية 23 صوتا، مقابل اعتراض 22 صوتا، إلى انهيار العلاقات الأمريكية التركية مجددا، بعد أن نجح أوباما في احتواء أول خلاف خطير في العلاقات بين الجانبين في العام الماضي، على خلفية رفض أنقرة تولي رئيس الوزراء البلجيكي فوج راسموسن، منصب الأمين العام لحلف الناتو. وتشير التوقعات إلى أن الخلاف الأخير حول مذابح الأرمن، سيكون هو الأكثر خطورة في العلاقات بين الجانبين، والتي أصبحت مهددة بالانهيار تماما مؤخرا، رغم المحاولات المبكرة لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، لاحتواء الأزمة، بمطالبتها أعضاء الكونغرس بالتصويت ضد قرار اعتبار مذابح الأرمن إبادة، وهو ما فشلت في تحقيقه، رغم نجاحها النسبي في عدم اعتماد مشروع القرار بأغلبية أكبر، حسبما كان متوقعا.ويضع تبني لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس، للفظ الإبادة، في وصف مذابح الأرمن، الرئيس الأمريكي في أزمة كبيرة ما بين تركيا، التي يعتبرها حليفا أساسيا لبلاده، وبين الناخبين، الذين وعدهم خلال حملته الرئاسية بإقرار المشروع. تصويت مجلس النواب الأمريكي قرار مخطط له يبدو أن الصدام العلني وليس التحالف الوثيق أصبح هو سيد الموقف في العلاقات بين تركيا وأمريكا لدرجة دفعت البعض لإطلاق الرصاصة الأخيرة على مشروع مؤسس الدولة العلمانية مصطفى كمال أتاتورك لسلخ تركيا من محيطها الإسلامي والقذف بها في أحضان الغرب. فتصويت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في 4 مارس لصالح مشروع قرار يصف مذابح الأرمن بأنها عمليات إبادة جماعية لم يكن أمرا عفويا وإنما كان مخططا له بعناية بالنظر إلى أن الغرب يهدف من إثارة تلك المسألة بين الفينة والأخرى إلى الضغط على الحكومة التركية لتنفيذ أجندته من ناحية وتزوير التاريخ والافتراء على الإسلام من ناحية أخرى. وكانت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي اجتمعت على مدى ثلاثة أيام لمناقشة نص حول مذابح الأرمن بين عامي 1915 و1917 ، واتخذت قرارا في 4 مارس بتأييد 23 صوتاً في مقابل معارضة 22 يصف مذابح الأرمن في عهد العثمانيين بأنها إبادة جماعية. وعلى الفور ، قامت تركيا باستدعاء سفيرها في واشنطن احتجاجا على تلك الخطوة ، كما حذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن القرار الذي زعم أن الدولة العثمانية ارتكبت أعمالا ترقى إلى مستوى ''الإبادة الجماعية'' ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى سيلحق ضررا بالغا بالعلاقات بين تركيا والولاياتالمتحدة، مؤكدا أن بلاده اتهمت بجريمة لم تقترفها. وفي السياق ذاته ، أعلن الرئيس التركي عبد الله جول أن تركيا أحد أهم حلفاء الولاياتالمتحدة في حلف الناتو لن تكون مسئولة عن العواقب السلبية التي سيتمخض عنها القرار. يد اللوبي الصهيوني يبقى تصريح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوجلو هو الأكثر وضوحا في تحميل إدارة أوباما مسؤولية ما حدث ، حيث حذر من أن تلك الخطوة تضر بجهود المصالحة التركية مع أرمينيا ، قائلا: '' يثبت تبني القرار أن الإدارة الأمريكية لم تتدخل في شكل كاف لمنعه ونحن منزعجون للغاية من التصويت''. ويبدو أن هناك ما يدعم صحة وجهة نظر أوجلو ، فمعروف أن اللجنة ذاتها ناقشت نصا مماثلا قبل عامين لم يتمكن من بلوغ مرحلة التصويت بعد أن ضغطت إدارة الرئيس السابق جورج بوش من أجل وقف التصويت عليه، ولذا يتساءل كثيرون عن السر في تغير الموقف الأمريكي خاصة وأن الأمور كانت تسير في اتجاه حل تلك القضية نهائيا بعد أن وقعت تركيا وأرمينيا في أكتوبر الماضي اتفاقا تاريخيا لتطبيع العلاقات بينهما بعد قرن من العداء. والإجابة على الأرجح لن تخرج عن الانتقام من أنقرة بسبب مواقفها الشجاعة منذ العدوان الأخير على غزة والتي انتقدت خلالها إسرائيل بشدة ، الأمر الذي دفع اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة للتحرك بسرعة لمعاقبتها. هذا بالإضافة إلى أن جذور التوتر في علاقات أنقرةوواشنطن تعود إلى 7 سنوات مضت حينما رفضت تركيا في عام 2003 انتشار نحو 60 ألفاً من الجنود الأمريكيين على أراضيها للمشاركة في غزو العراق، مقابل عرض أمريكي بتقديم مساعدات اقتصادية لها تصل لنحو 30 ملياراً من الدولارات . الرفض السابق للإغراءات الأمريكية ما كان ليحدث لولا وجود حكومة ذات جذور إسلامية على رأس السلطة في تركيا التي طالما عانت لعقود من الفصل التام بين الدين والدولة تنفيذا لمبادىء مؤسس الجمهورية العلمانية كمال أتاتورك ، ولذا سرعان ما اتخذت واشنطن عددا من الخطوات الانتقامية من أبرزها قيام مجلس الشيوخ الأمريكي قبل عامين بإقرار مشروع قرار بشأن تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات شيعية وسنية وكردية ، وهو أمر لا يهدد فقط وحدة العراق وإنما استقرار تركيا أيضا التي تتخوف بشدة من قيام دولة كردية في العراق وبالتالي تشجيع النزعات الانفصالية لمواطنيها من الأكراد. وفي 11 أكتوبر 2007 ، ناقشت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي مشروع قرار يصف عمليات قتل الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى على يد أتراك الإمبراطورية العثمانية بأنها إبادة جماعية ، وفى الشهور الأخيرة ، أثارت حكومة رجب طيب أردوجان استياء واشنطن مجددا عندما أعلنت صراحة رفضها استخدام الأراضى التركية لضرب سوريا أو إيران ، بالإضافة إلى انتقادها اللاذع لإسرائيل والذي ظهر بوضوح في منتدى دافوس عام 2009 . وأمام ما سبق ، فإن كثيرين يرجحون أن قرار لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في 4 مارس حول مذابح الأرمن لن يكون الأخير من نوعه حتى وإن عرقلت إدارة أوباما مؤقتا إقراره في الكونغرس بمجلسيه لحاجتها لمساعدة تركيا في تسهيل الانسحاب من العراق . مذابح الأرمن ... حقيقة أم مزاعم يؤكد جل المحللين السياسيين أن قضية مذابح الأرمن المزعومة بدأت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، إذ قامت روسيا بإثارة الأرمن الأرثوذكس القاطنين شرقي الأناضول القريب من الحدود الروسية العثمانية، فبدأت بتحريضهم وإمدادهم بالمال والسلاح والقيام بتدريبهم في أراضيها وتشكيل الجمعيات المسلحة من أمثال خنجاق و طشناق. وقدمت بريطانيا وفرنسا دعماً قوياً لتلك المنظمات لأنها كانت تريد تفتيت الدولة العثمانية وإقامة ما يسمّى بدولة أرمينيا الكبرى. ولم يكتف الأرمن بذلك بل حاولوا اغتيال السلطان عبد الحميد الثاني في 21 جويلية 1905م، عندما كان يهم بالخروج من صلاة الجمعة بمسجد يلدز المحاذي للقصر الإمبراطوري حيث انفجرت سيارة ملغومة أمام الجامع. ولأن السلطان تأخر عن موعد خروجه المعتاد بسبب انشغاله بمسألة فقهية مع إمام المسجد فنجا من الموت المحقق. وأثبتت التحريات البوليسية آنذاك أن إحدى الجماعات الإرهابية الأرمنية كانت وراء عملية الاغتيال الفاشلة هذه. وكان يتزعم هذه المنظمة أحد الأرمن حاملي الجنسية البلجيكية واسمه ادوارد جرّيس الذي اعترف بجرمه لكن السلطان عبد الحميد عفا عنه وخلّى سبيله. ومن أعضاء هذه العصابة كذلك الأرمني الروسي كريستوفر ميكائيليان وحجي نيشان ميناسيان وميكرديج سركيس غريبيان وغيرهم من الأرمن القوميين المتطرفين. وبعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني الذي كان مسيطرا على الأوضاع الأمنية والسياسية في الإمبراطورية بشكل جيد خلا الجو للحركات الانفصالية مثل الحركتين الأرمنية والصهيونية لأن تعبث في البلاد وتغتصب أراضي الدولة وتقتل المدنيين العزل. وبدأت المذبحة الكبرى على يد المسلحين الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى حيث تذكر الوثائق الرسمية التي مازالت محفوظة إلى اليوم تفاصيل عن إبادة الأرمن لعشرات الآلاف من القرويين المسلمين في ولايات قارص واردخان وارضروم وآضنه. غير أن الأمور أنقلبت على هؤلاء الإنفصاليين بعد إنقطاع الدعم الروسي إبان الثورة البلشفية سنة 1917م، فبقي الصراع قائما بين أهالي الأناضول من الأتراك والأكراد من جهة والأرمن من جهة أخرى فما كان من السلطان محمد رشاد إلا أن أمر بتهجير المدنيين الأرمن إلى بلاد الشام إنقاذاً لهم من الحرب العالمية الأولى. فمعروف أن أرمينيا طالما زعمت أن الجيش العثماني قتل بين عامي 1915 و1917 نحو 5و1 مليون أرميني ودمر مئات القري والبلدات لإجبارهم على الرحيل ، مشيرة إلى أن الناجين من عمليات القتل فروا إلي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبعضهم سافر إلى مصر . وفيما سعت أرمينيا إلى أن تقر تركيا بأن مقتل الأرمن كان إبادة جماعية ، إلا أن الحكومات التركية المتتالية رفضت ذلك واعترفت أنقرة فقط بحدوث فظائع لكنها بررتها بكونها وقعت في سياق الحرب ولم تصدر عن نية مبيتة لإبادة المسيحيين الأرمنيين ، مؤكدة أن كثيرا من الأتراك المسلمين لقوا حتفهم إلى جانب الأرمن المسيحيين إثر اندلاع اقتتال عرقى واسع النطاق أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانية. وفى مواجهة دعوات أرمينيا لاعتراف دولي بأن عمليات القتل التي تعرض لها الأرمن ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ، فإن أنقرة رفضت بشدة تقديم اعتراف بالمسئولية وحذرت الدول الأخرى من الاعتراف بمزاعم أرمينيا ودعت في الوقت ذاته إلى بحث علمي دقيق ومستقل فى تلك الحوادث. ورغم أن 20 دولة وصفت الأمر بأنه إبادة جماعية، إلا أن هناك دراسات بريطانية أشارت إلى أنه عندما دخل الانجليز إلى اسطنبول محتلين في 13 نوفمبر من عام 1919 أثاروا المسألة الأرمينية واعتقلوا عددا من الأتراك الذين مثلوا أمام محكمة عسكرية بريطانية إلا أنها لم تستطع إصدار أي حكم لعدم وجود أى وثيقة تدينهم . وبالإضافة إلى ما سبق ، فإنه في عام 1985 ، نشر 69 مؤرخاً أمريكياً من المختصين بالتاريخ العثماني بياناً نفى بشدة مزاعم وقوع أي عملية تطهير عرقي للأرمن من قبل الأتراك العثمانيين. وما يدحض مزاعم أرمينيا أيضا هو رفضها دعوة تركيا لتشكيل لجنة مؤرخين مشتركة لبحث المسألة وذلك بعد أن قام رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان فى 15 مارس 2005 بتشكيل لجنة من المؤرخين لجرد كل الأرشيف العثمانى بل وهناك أيضا دراسات تاريخية تؤكد أنه في القرون الوسطي ، ظهرت دولتان أرمينيتان ، واحدة في منطقة القوقاز وهي أرمينيا الحالية وأخرى في منطقة كيليكيا الواقعة شمال مدينة حلب علي الحدود بين تركيا وسوريا وقد سقطت هذه الدولة بيد السلاجقة الأتراك بعد احتلالهم لآسيا الصغرى عقب معركة منزيكرت عام 1071 التي انهزم فيها البيزنطيون ومن ثم أصبحت كيليكيا ضمن إمبراطورية الأتراك العثمانيين. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، دخلت تركيا فيها إلي جانب دول الوسط ''ألمانيا والنمسا'' ضد الحلفاء ''فرنسا وبريطانيا وروسيا''، وخلال الحرب دأب الأرمن في كيليكيا وهم من الأرثوذكس على تزويد روسيا بمعلومات عن الجيوش التركية بعد أن وعدتهم روسيا بمساعدتهم في بناء دولة مستقلة، ولذا قررت الدولة العثمانية ترحليهم خارج أراضيها ولقي الآلاف منهم حينها مصرعهم بسبب الجوع أو المرض . أنقرة تدفع ثمن رفع راية العصيان حسب ما ورد سابقا يتأكد أن أنقرة لن تقبل بأي حال من الأحوال وصف الأمر بالإبادة الجماعية وما يستتبعه من اعتذار وتعويضات ومحاكمات ، ولعل هذا ما ظهر واضحا عندما أقدمت تركيا بالفعل على وقف تعاونها العسكرى مع فرنسا بعد إجازة البرلمان الفرنسي في 12 أكتوبر 2006 مشروع قانون يعاقب من يتنكر للمجازر ضد الأرمن بالحبس لمدة سنة وبدفع غرامة مالية تصل إلى 45000 يورو ، بل ويتوقع البعض أن تلجأ أنقرة للتهديد بمنع الولاياتالمتحدة من استخدام قاعدة أنجرليك الجوية التركية التي توفر الدعم اللوجيستي للعمليات العسكرية في العراق وأفغانستان ووقف التدريبات العسكرية المشتركة ، في حال لم تعرقل إدارة أوباما القرار الأخير للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي . والخلاصة أن تركيا دفعت ثمنا فادحا للانسلاخ عن محيطها الإسلامى مقابل إرضاء الغرب، فواشنطن طالما اعتمدت على تركيا كحليف إقليمي رئيسي في إطار حلف الناتو لتنفيذ مخططاتها في منطقة الشرق الأوسط ، حيث تمثل قاعدة إنجرليك الجوية وغيرها من خطوط الإمدادات أمورا حيوية للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، إلا أنه عندما رفعت تركيا راية العصيان تجاهل الغرب خدمات أتاتورك وجاء الانتقام سريعا حيث وصل الأتراك رسالة مفادها أن التحالف مع الإمبراطور لا يعني الحماية من مخالبه.