جعلت التغيرات السريعة في مجتمعنا وما تمليه هذه التغيرات من مشاكل وعقد وأزمات، الكثير من الناس يفضفضون عن مشاكلهم ولا يكتمون سرا من أسرارهم، فيجدون بهذه الفضفضة منفسا للضغوط التي يعيشونها وراحة نفسية للبوح بما في صدورهم. انتقال الناس من التكتم الشديد إلى الفضفضة العريضة ما يثير انتباهنا هذه الأيام هو تلك التلقائية التي أصبحت عند كثير من الناس في إفشاء أسرارهم وما يدور في حياتهم الخاصة، فأصبحوا يعترفون بين بعضهم البعض بخصوصياتهم فأطلقوا بذلك العنان للأسرار الدفينة التي تضايقهم واخراجها من صدورهم، وأصبح بذلك المنفس الوحيد للتخلص ولو بشكل بسيط من ضيقهم .. والواقع مليء بهذه الظاهرة التي تفشت في أوساط مجتمعنا. وفي هذا الصدد تقول السيدة نادية ''إن مشاكلي مع زوجي لم تعد تطاق فأصبحت لا أستطيع تحملها وبما أنني بعيدة عن أهلي وأقاربي لم أجد إلا جارتي ''مريم'' لأحدثها عن مشالكي ومشاغلي مع زوجي التي أصبحت لا تنتهي، حيث أخبرها بكل مشاكلي فأجد بذلك متنفسا لمضايقاتي التي أواجهها يوميا مع زوجي. وبالمثل فهي تحكي لي كل أسرارها ومشاكلها مع أبنائها وكناتها، فتجد بذلك الواحدة تحررا من مضايقات عائلتها اليومية''. وبذلك أصبحنا نادرا ما نسمع عن أشخاص يكتمون أسرارهم مهما وصلت ذروة مشاكلهم ومضايقاتهم الحياتية، والذي ساعد على تفشي ذلك وسائل الاتصال العصرية في مقدمتها الهاتف النقال والخدمة المجانية التي أصبحت توفرها الشبكات الهاتفية، حيث تكفي قيمة معينة في الرصيد للتحدث لساعات طويلة، وهذا ما يعني أن الناس لا يتكلمون عند الضرورة القصوى، كما أن الهاتف النقال وسيلة سريعة لقضاء الحاجات، بل إنه الوسيلة التي يعهد إليها كثيرون لملء أوقاتهم بالساعات وهم يعمدون بذلك إلى الترويح عن أنفسهم بالفضفضة والبوح عن كل شاردة وواردة. أصبحت الأسرار لا مكان لها في صدور الناس في الزمن الماضي -وغير البعيد- كان لمجتمعنا قيم ومبادئ مفتشية بين أوساط أفرادها ومن بينها كتم الأسرار فمهما بلغت درجة الألم والمضايقات والمشاكل إلا أن صاحبها يبقى صابرا يترجى زوال همومه، فلا يترك لسانه يتخطى شفتيه لإخبار كل من هب ودب عن همومه، وإذا أفشى أحد سره لغيره وائتمنه عليه تجده كاتما أمينا على ذلك السر مهما بلغت الخلافات أوجها بينهما فلن تصل إلى درجة البوح بها. كما نجد العلاقات في الماضي بين أفراد الأسرة الواحدة مهما وصلت درجة الخلافات فالمشاكل تبقى محصورة بين جدران وسقف البيت سواء بين الآباء وأبنائهم أو حتى بين الزوج وزوجته أو الكنة وحماتها وغيرها. أما اليوم وللأسف فتجد الأسرار الخاصة جدا نسمعها في الشارع وفي الحافلات وداخل سيارات الأجرة وفي المحطات والأسواق والحمامات وغيرها. وفي هذا الصدد تحدثنا السيدة فريدة ''صادفت ذات يوم جارة لي لم أكن إلا لألقي عليها التحية فإذا بها تحدثني عن زوجها الذي أسكنته دارها وفوق هذا هو رجل عديم المسؤولية، لا يعينها في شيء، وإذا تحاورت معه وجدت معارضة عنيفة منه..''، وبذلك فقد فتحت هذه السيدة بحر أسرارها إلى جارة لا تعرف عنها شيء. الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية في مقدمة البوح بالأسرار إن لخبراء التحليل النفسي رأيهم في هذا الشأن، حيث تقول السيدة ''ب. حميدة''، مختصة في العلاج النفسي بالمستشفى الاكلينيكي ببولوغين، ''إن الخصوصية لم تعد أمرا هاما في حياة الناس، نتيجة ضغوط الحياة وتراكماتها، وكلما كانت الصدمة أكبر كان البوح بها وكانت الفضفضة أكبر. وإن كانت الخصوصية لم تعد ذلك الأمر الشخصي في حياة الناس الواجب عدم التكلم عنه، فإن هذه الفضفضة هي علاج نفسي مشخص من الكبت الذي قد يأخذ أبعادا أخرى من بينها الانهيار العصبي''. ولكن بالرغم من رأي النفسانيين في إفشاء الأسرار والفضفضة على أنه ملجأ للراحة النفسية بالمقابل لا يمكن الانكار أن إفشاء الأسرار قد يعود بالندم لدى الكثيرين فمعظم من باح بسره للآخرين أصبح سره مكشوفا عند جميع الناس، فيتحدث به كل صغير وكبير ولم يعد سرا فسبب بذلك مشاكل لنفسه وغيره، وأصبحت مقولة ''يا خبر بفلوس بكرى يبقى ببلاش'' تتداولها كل الألسنة لأن الجميع يدركون أن الأسرار لم تعد لها مصداقية وأن معظم الناس يبحثون عمن يسمع لهم، فإذا وجدوا الآذان الصاغية فحتما يفضفضون بل ويبوحون عن كل أسرارهم. وما يمكن قوله إن الناس أصبحوا في الآونة الأخيرة يبثون شكواهم وأسرارهم يوميا ولساعات طويلة بين بعضهم البعض وهم يفعلون ذلك وكأنهم -في حقيقة الأمر- قد تعروا من أنفسهم كما يتعرى الجسد من الثوب، حينذاك يصبح الإنسان محتقرا نفسه فيقول لو أني صبرت لحظة ولم أفش سري لأحد لمرت الأمور بسلام ولما حفظ أحد عيبي. فليت الإنسان يشكو لله تعالى وحده فهو صاحب الأمن والصفح، فلم نترك القريب ونذهب للبعيد؟