في لحظة غضب.. لم أكن أعي.. هل حقا قد ارتكبت خطأ في حياتي أم لا.. ولماذا؟! بتلك الكيفية والسرعة والبداهة.. قدمت رجلي اليمنى وضربت (البشير) ذاكم الشحرور الصغير الذي لم يتجاوز سنه السابعة. قدمت رجلي.. وأنا في الشارع الرئيسي، أين يقف ورائي أحد الملتحين صاحب محل بيع الجبب.. وعلى يميني شاب حلاق يهم بالدخول إلى محله حاملا (موس حلاقة) ويبدو أنه هو من كان يداعب البشير إلى درجة أن قابله هذا الصبي بكيل من الشتم والسباب، لم ألحق به ولم أسمعه.. بل شاهدت فقط البصقة تخرج من فم البشير وهي لم تتعد حدود ذقنه المحمر من شدة البرد، فالتصقت بذات المكان علي شكل موجة زبد تجمدت بعد اندفاع سنتيمي، كل هذا حدث وبالتأكيد في حالة انتقام بين البشير والحلاق. ضرب البشير ضربة المنفعل، وأنا متأكد بأنه أول موقف جدي معه بعد أن كنت أداعب هذا (ابن الأخ) بضربات هزلية يفر بعدها ضاحكا، وما دمت عمه فقد كان قريبا مني جدا إلى درجة أن مثل هذه الحالات تكررت لي معه. بعد الواقعة طأطأ رأسه وهم مهرولا يحتك بالجدار نحو باب البيت دون أن ينبس ببنت شفة.. حينها جلست مع نفسي شاعرا بالذنب وأنا الشخص الذي كنت أحذر الزملاء من ثقافة العنف. محثهم على حسن المعاملة.. بل أنا متخصص في علم نفس الطفل؟! دخلت لأول مرة في صراع مع نفسي (ما الذي فعلته يا هذا؟! ومن أجل ماذا - ولصالح من!) سيحمل هذا الصبي عني فكرة سيئة بلا شك. لقد فتحت لنفسي نافذة لذاكرة الحقد.. سوف يسجل البشير في رأسه هذه الركلة طول حياته -ولن ينساها- أنا متأكد..! متأكد لأن ذلك حصل معي.. ما زلت أتذكر كيف أن عمي مرة وقد مزقنا قميصه المعلق في عز القيلولة لأجل صناعة كرة، نلعب بها.. فقد أحضرنا نحن مجموعة من الصحف القديمة المرمية وحشوناها ببعضها، عجناها حتى تكورت، ثم مزقنا قميص العم على شكل خيوط وحبال وربطنا بها ذاك الجسم حتى احتكم إلى مجسم جلد منفوخ.. نجحنا في اختراعنا ولعبنا المقابلة في عز المساء، ضد أبناء العم؟! ولكن ذاك المساء كان يوما قاسيا علينا وعلى شخصي بالذات.. فقد نسب أبناء العم كل تفاصيل هذه الجريمة إلي -شاهدين كلهم ضدي- تحملت العقوبة وحدي، وكانت النتيجة هي أنني تلقيت ضربا مبرحا بأنبوب الماء على جلدي العاري؟! بعد أن كنت مرتديا تبانا لعشاق الكرة المستديرة -ما أبشعه ذلك اليوم- والذي لم أنساه بتاتا ولم أنس قساوة العلم كلما وقعت العين في العين، وكنت كلما صادفته إلا وانتصب أمام حاجبي تشنج عقيم بالرغم أنني حاولت أن أنسى وأنسى.. ولكن يستحيل.. فبعد مرور عشرات السنين عجزت صراحة أن أغفر له، وقلت بأن العم لم يكن يكرهني أنا بالذات، ولكن نكاية في أمور أخرى بدأت أعرفها بعد أن فهمت الحياة جيدا. وظلت هذه النظرة السيئة تلازمني حتى وأنا على مشارف العقد الرابع فقد كنت أترجى أن يكون هناك نوع من العطف (جميل المحيا) من طرف هذا العم وأن يعاقبني بطريقة مهذبة وليس بطريقة جلد الجلد.. لسبب أننا تنعمنا ولو بخيال بلعبة جلد بل هي من كتان...؟! والسبب الآخر هو أننا صبيان لا نفرق بين الشرق والغرب. بين حادثة العم التي مضى عنها أكثر من ثلاثين سنة وحادثة البشير اليوم.. علاقة نفسية غائرة في الأعماق.. فكيف لي أن أحذف من ذهن البشير هذا الحقد الذي حط على عرش فكره وأرسى قواعده بدءا من هذا المساء.. لا بد من استعمال طاقة كبيرة وترسانة من الدبلوماسية أولها الإغراءات.. لا بد أن أغري البشير بالألعاب التي يحبها أي طل والحلوى التي هي على شكل كرات صغيرة تشدها أعمدة بلاستيكية.. تسمى باسم رجل المخابرات (كوجاك) - لن أترك الفكرة تبيت ليلة واحدة.. لا بد من قتل جنين الحقد. دخلت البيت محملا بكيس مليء بالهدايا.. رأيت البشير يتسلق حبل الغسيل مع مجوعة من الصغار -ناديته- نظر نحوي باستغراب قطع ابتسامته المعهودة ثم واصل عمله الصبياني.. أعدت له النداء نظرني نظرة غير مألوفة.. وكأنه لم يرني.. أنا متأكد بأنه غاضب مني (ما العمل) اقتربت منه.. ولم أفضح ما في الكيس الأسود مخافة أن يطالبني غيره من آخرين وأخريات بأشياء مماثلة (وأنتم تعرفون سوق الأطفال) والغيرة المكشوفة. دخلت المطبخ.. أبصرت أمه تتقرفص أمام طاجين المساء الساخن ريح في الخارج خفيفة لكنها سامة.. أردت أن أطلب منها خدمة وهي أن تنادي البشير، لكن قبل أن يحصل ذلك، وقف البشير على جهتي اليسرى قل (وش) وهي على مقاس (واش) وشو.. قبلته.. وقلت له: ها هي قصة جميلة تحكي عن طوما الصغير، وهذا جهاز راديو خاص بقناة واحدة فقط.. وها ه ذا وذا وذا.. كان يبتسم وأنا أقبله من خديه الاثنين.. وكأن بي افتقدته وضاع مني صارحت أمه بالحادثة.. قلت لها: لقد ضربته.. بعد أن شتم الحلاق وبصق بفيه أمامي. قالت أمه: نعم.. إضربه.. إضربه كلما أخطأ مرة أخرى... فأنت عمه؟!