فبينما نحن منشغلون بالاختلاف بيننا والجدل حول تافهات المسائل، تحولنا إلى فئران تجارب، لن ستوعب ما يدور حولنا ولا نتحمل الآلام، فما حقيقة الأمر؟ قال الفيلسوف الألماني هيغل: { ق 19} ''إننا على أبواب عصر مهم من التخمر، عندما يتقدم الفكر قفزة، فإنه يتعالى على شكله السابق، فعلى الفلسفة بشكل خاص أن تستقبل ظهورها، وتتعرف إليها، بينما يتمسك الآخرون الذين يعارضونها ولو بشكل ضعيف بالماضيس هل نحن من أولئك الآخرون ؟ وهل تخلفنا ثقافي أم تكنولوجي ؟ لما تغيرت طرق الحكم في نهاية العهد الراشدي حين بلغ التقدم أوجه، أصيبت أمتنا بداء الانهيار ''الاهتمام بالبذخ والكماليات وانغمس العرب في اللهو'' ورزق الغرب بحيوية الاستيقاض والتحرر والاهتمام بالعلوم مند ذلك الحين بدأت التداعيات شرقا، والتقدم غربا، ما يوحي بتدني الفكر العربي، بداية، لا بدّ من تعريف معنى الثقافة لغة واصطلاحا كي نحدد الاتجاه الصحيح لما نحن بصدد معرفته { Culture }. الثقافة لغة، يقال: ثقف فلان ثقفا'' صار حاذقا فطنا'' وثقف العلم والصناعة: ''حَذَقهما، وثقف الشيء: ''أدركه'' قال تعالى: ''واقتلوهم حيث ثقفتموهم'' وثقف الشيء: ''قوم اعوجاجه وسواه'' . وتثقّف في مدرسة كذا أخذ الثقافة بها..فمعنى الثقافة في اللغة ''الحذق والفطنة والإدراك والتحصيل وإقامة المعوجس. أما الثقافة اصطلاحا فهي: ''مجال العلوم والمعارف والفنون التي تطلب الحدق بها. وهو ما بسمح بتحديد طابع الثقافة ? الثقافة الإسلامية ....الثقافة العربية...الثقافة الصحية.. ثقافة الحوار...الخ. المهم، الموضوع مازال يتطور وينمو و يكتسب أبعاداً جديدة لمفهوم'' الثقافة '' فإلى حد اليوم لم يقر له قرار، فهو من المفاهيم أو المصطلحات الزئبقية أو العائمة. إلا أننا يمكن أن نركن إلى تعريفات علماء الأنثروبولوجيا في السبعينات من القرن التاسع عشر، الذين أجمعوا في محصلة طروحاتهم على أن ''الثقافة هي ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن ،والخُلق والإبداع، والقانون، والعادات الاجتماعية وأية إمكانيات اجتماعية أخرى بل وطبائع اكتسبها الإنسان كعضو في مجتمعه.'' وخلصوا إلى أن الثقافة هي سلوك تعلمي قد يتناقض مع السلوك الموهوب تراثياً. كما أخلصت جل الدراسات إلى أن الثقافة ثلاثة أقسام هي : 1-العموميات : وهي مكونات ثقافية يشترك فيها جميع أفراد المجتمع وتشمل الأفكار والعادات والتقاليد والسلوك وأنماطه وجميع مظاهر الحياة، أي كل ما يكتسبه أفراد المجتمع كالقيم والاتجاهات والمعايير المشتركة ووظيفتها. 2- الخصوصيات : أما خصوصيات الثقافة فهي عناصر ثقافية مقتصرة على مجموعة معينة من أفراد المجتمع دون غيرهم ''فئات تقسيم العمل بين الأفراد'' كالخصوصيات المهنية و الخصوصيات الطبقية في المجتمع '' راقية - متوسطة - عادية '' إذ لكل منها ثقافة واهتمامات خاصة بها . فالناس مثلا يعرفون أهمية الطب ويقدرون الأطباء لكن لا يعرفون الخصائص العملية والمهنية للطب، والعوام يعرفون: ذوق طعم الثفاح، وفصل نضجه، وحتى أهميته في التغذية ،لكن لا يدركون مكوناته، وأهميتها في التغذية. 3 - المتغيرات : أما المتغيرات فهي عناصر ثقافية دخيلة لا تنتمي إلى العموميات وليست مشتركة بين أفراد المجتمع .. وليست خصوصيات هي، وليست مشتركة بين أفراد المهنة الواحدة أو طبقة اجتماعية واحدة، تتسم بالاضطراب ويمكن أن تستقر على وضع وتتحول إلى قيم خصوصيات أو عموميات ثقافية. وانطلاقاً من كون أن لكل مجتمع إنساني منظومة من السلوك تحكمه معايير قد تختلف من مجتمع إلى آخر وحتى داخل الثقافة الواحدة، مثال ذلك الثقافة العربية وما لها من ثقافات فرعية تحكمها عوامل قسرية مثل: الإقليمية والجغرافية وربما ازدواجية اللغة كحال الجزائر والمغرب وسوريا ''أصول أمازيغية وأخرى عربية''. وألوان أخرى من المعرفة مثل -الاستعمار والهجرات وما إلى ذلكم كالازدواجية اللغوية ''الفرنسية والعربية'' في البلدان المذكورة. من هذا المنظور تبدو الثقافة قيم جواهر المرتكزات، ودرر المكتسبات والتراث، تنتج عن تركيب استعدادات في الإنسان ليسلك سلوكا خاصا وهي نتاج هيئات صغرى تهيأ بها أفراد الجماعة.ما يجعل من الثقافة هيئة واحدة هو الانتماء إلى تجربة تاريخية مترابطة الحلقات،وتضفي عليها الجماعة وحدتها. أما المعرفة {Connaissance } فخبرات ومهارات ووسائل وتصورات فهي حصيلة الامتزاج الخفي بين المعلومة والخبرة والمدركات الحسية والقدرة على الحكم على المعلومات وتجسيد التصورات، ووسائط اكتساب المعرفة عديدة كالحدس والتخمين والممارسة الفعلية والحكم بالسليقة، والرصيد الثقافي وهي أهم روافد الثقافة، وروح التكنولوجيا. . إذا لا مرجعية محددة للثقافة ومقومات امتلاكها وليس بالضرورة أن تكون نتاجا أكاديمياً فكم من حملة الشهادات العليا يفتقرون إلى مستوى مقبول من الثقافة وكم من المبتدئبن امتلكوا ناصية الثقافة على أفضل ما تحمله من معانٍ سامية. كما أن الثقافة بلا موقف واضح من الحياة وسلوك منسجم مع المحيط الاجتماعي، تبقى ناقصة، والمرتكزات التي تتيح منح الشخص صفة ''مثقف''هي الحد الأدنى من امتلاك المعارف على مختلف تشعباتها ليثبت انه متابع لفصول الحياة في الجماعة. وبهذا المعنى فإنها اليقين المحقق الذي يرفع من القدرة على العمل الفعال أو الأداء الفعال وليس على اكتشاف الحقيقة، فللعلم والثقافة أهمية كبرى في التحولات التي شهدتها البشرية عبر العصور. ذهب ''فرنسيس بيكون'' قبل ما يقرب أربعة قرون إلى القول أن ''المعرفة قوةس واليوم فالقوة بمعناها التقليدي قد تحولت بما يتناسب والتطور الحضاري للمجتمعات الإنسانية فبعد أن كانت القوة العسكرية هي الحاسمة في عصر الزراعة، وأصبحت القوة الاقتصادية بعد ذلك هي الفاصلة في عصر الصناعة، هاهي المعرفة وتطبيقاتها التكنولوجية أبرز مظاهر القوة في عصرنا الراهن. إذا، إن الإنسان الفاعل في العصر الراهن هو إنسان متعدد المهارات، قادر على التعلم الدائم، والتكيف والتأقلم مع التبدلات المتواترة الناتجة عن الطبيعة الاقتحامية والتحويلية للتكنولوجيات، { Technologies } التي تشكل في حد ذاتها تحديات عويصة، ومع التطور المذهل الذي تعرفه اختلاف مشاربها، سؤال كبير يطرح نفسه :كيف لأمتنا أن تساير الركب بما تعرفه من تفكك تقافي وتخلف معرفي؟ رغم أن القرآن وهو بحر عميق من النفائس والدرر،علومه المشعة تتخطى حدود الزمان والمكان، وكل الأقيسة الاستقرائية والجدلية المعروفة في عصرنا الحاضر؟ وشواهد حضارة عهده الذهبي ما تزال قائمة. إن من أهم التحديات التي تطرحها العولمة أن نعرف كيف نحافظ على خصوصياتنا الثقافية دون أن يحول ذلك بيننا وبين التفاعل الإيجابي مع العولمة ذاتها. ومن الواضح اليوم أننا أمام نمط جديد من التطور المجتمعي يعتمد في سيطرته ونفوذه على المعرفة عموماً والعلمية منها بشكل خاص. وكفاءة استخدام المعلومات في كل مجالات الحياة، وجعل الأنشطة المعرفية تتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيراً. لقد أصبحنا نعيش في عصر اختزال المسافات وتقدم وسائل الاتصالات والمعلوماتية ولكننا مازلنا نتساءل ما مكاننا بين سكان هذه القرية الضخمة التي يتحدثون عنها في إطار العولمة؟ هل يا ترى سيكون لكل شعب من الشعوب خصوصيته الثقافية أم سيصبح جميع سكان ''القرية العظيمة'' ذووا ثقافة واحدة؟ إن العولمة لا ولن تستأذن بالدخول، ولا تنتظر موافقتنا على الإصلاحات فهي بقوانينها ووسائطها التكنولوجية تخترق السيادة والعقول والآراء وحتى النفوس لتعيد تشكيلنا وفق استراتيجياتها، وتجرنا خلفها،في تطور مشوه، دون إرادتنا ن وهو ما يعيشه عالمنا العربي اليوم مع الأسف. بسبب التفكك والتخلف الثقافي والمعرفي، الذي أنجبته السياسات العرجاء، تدفعها الرؤى الضيقة والذاتية المقيتة، أسباب أدت إلى تخلّف العرب وعدم لحاقهم بركب الحضارة المعاصرة. ومن ذلك أن نظم التعليم في البلاد العربية لا تزال تراوح مكانها في سفح ''هرم بلومس{ PyramidBloom}، حيث مهارة اكتساب المعرفة في حدودها الدنيا، هي غاية ما يحققه المتعلمون، إضافة إلى كمِّ المعلومات وتنوعها. ولا يتطلع القائمون على التربية التعليم في وطننا العربي إلى قمة الهرم، حيث مهارة التقييم، ودقة إصدار الأحكام، ومهارات الفهم والتطبيق والتحليل والتركيب