لابد للقدر أن يتحقق، ولا بد لكل منا أن يأتيه الأجل، والموتعلينا حق فرضت ما كنا لا نريده أو نتوقعه. ماذا أقول و دمع العين منهمر... وماذا أفعل وملء النفس حسرة لا تنقضي، وبماذا أتصرف وأنا أرى الدنيا مظلمة... والحياة صحراء موحشة... وكيف لي الصبر وقد أُخبرنا بافتقادك. إني أبكيك أيها المسافر بدون عودة، أبكيك بقلبي وروحي، وكل شيء في داخلي، لقد تركت لي فراغا لايعمره أحد من بَعدك. عمِّي الطاهر لن أسقطك من ذاكرتي أينما كنتُ و حيثما وجدتُ، أصبحت كفرخة مصابة أثلجها الصقيع، ودمرتها العواصف العاتية، والجاحظية هي المكان الأول من اقتحمت أسوار دنياي العتيقة. انتظرت عودتك بملء أحاسيسي الجياشة، النابعة كالشلال الأبيض، كنت أغازل حبات المطر التي تحنوعلى الثرى، كنت آتي بلا كلل ولا ملل وأوغل في عالمي الجاحظي الذي لا أعرف فيه عناء ولا شقاء. في عينيَّ الصَّغيرتين أمل كبير، وعلى صفحة وجهك الأسمر تباشير ليوم جميل، وفي خطواتي السريعة نشاط صبياني لا يرهقه كلل. أهرع كالسَّهم إلى الجاحظية حين يتناهى إلى سمعي صوتك المميز. كنتَ أنتَ كالحمَام الوديع تهدل في أرجاء البيت الجاحظي. وداعك عمي الطَّاهر يُدمي كبدي، و يحزُّ في نفسي، ويُوهن في قلبي، فراقُك ترك أثرا كبيرا بأعماقي، فما أن أحلَّ في مكان إلاَّ و أتذكرك فيه، يوم كنت تدخل عليَّ في أرجاء الجاحظية، وتكون فيه بيننا فواصل زمنية ومكانية، تسأل عني إذا غبت طويلا وتسألني عن صحتي وإبداعاتي المتواصلة إذا حضرت. اعلم يا عميِّ الطاهر، بأن شخصية الإنسان تكبر عند الناس إذا كان صاحبها خلوقا كريما، وإن المرء يبذل قصارى جهده لاكتساب ثقة الجميع و محبتهم وتقديرهم له، كنت أنت تبدي الرأي والخبرة، النصح والإرشاد في مساعدة الناس والتعاون معهم على البر والتقوى، وبالدليل مكان الجاحظية التي عَرَّفت فينا البعيد والقريب، المألوف والغريب، المبدع والهاوي، المثقف والجاهل، المجنون والعاقل وما شابه ذلك. منذ أمد بعيد ربطتني علاقة قوية بالجاحظية أو بالأحرى بعمي الطاهر ما يقارب عشر سنوات، و إني أصارحك وأصارح الجميع ما هو موجود بسريرتي، ماعرفت عنك سوى الحكمة و المثابرة والصمود في أشياءك، و الرأي الصائب ولذلك كنت ألتجئ إليك طالبة نصحك في كل انشغالاتي، لأنك صاحب تجربة في مثل بعض الأمور. لقد غادرت عمي الطاهر الأهل والديار، الكبار و الصغار. أدعو الله أن يسكنك فسيح جناته، وأن يمن عليك بالرفاق الصالحين. ابنة الجاحظية الحمامة البيضاء: نادية عمران ''كاتبة قصة للأطفال''