إذا نظر إليكَ سَطَعَتْ عيناهُ بوَميضِ فكره... وإذا جلستَ إليه أَحسَستَ بلهب روحه وهو يكاد يُشعِلُ ناراً في كيانكَ كُلِّهِ... فؤاده نار تتلظى... وشوقه لَهَبٌ يَتَسَعَّر... صاحب حزن وأسى... نفسُهُ مُفْعَمَةٌ هياماَ... وشيءٌ في روحه كثير التَّوَهُّجِ والألَق... هائل العظمة... شامخ السُمُو... إذا انتَشَى بكى... وإذا تأَلَّمَ لأمَّتِهِ بلَّلَ الأرضَ دموعاً... له في ملكوت البشرية الروحي مكان الصدارة... فهو ناسوتي الكيان لاهوتي الجوانح... عقلي التَّنسكِ... إستقرائي الفكر... واقعي الهوى... رحيقي اللسان والقلم... إذا وقع نظره على بُؤرة من بُؤر ''سَدُوم'' زَفَرَ وَصعَّد آهةً حرَّى ولسان حاله يقول: إنجَحِري عنَّا أيتها البؤرة اللعينة... ليس لكِ هنا مكان... أجئتِ لتعيثي في روح الأمة فساداً... وتزيدي جروحها جروحاً...؟! نوراني القلم... عرفاني العطاء... إلهي السريان... لؤلؤي الشفافية... يعلو آكامَ العقل العَصي... ويتوقل غوارب النفس الشَّموس... فيفعمها بالخِصبِ... ويترعها بالخضرة الماتعة...! طاقة ذكائه لا تنفد... له في كل يوم جديد ذكاءٌ جديد... ونظر في الأمور جديد... إلى الأمام ينطلق دوماً... وإلى الخلف لاينظر... إنه ليس برقم في حسابات المجتمع يمكن شطبه إذا أراد مَن يريد... إنه طاقة روحية ذات امتدادات في أرواح الناس وعقولهم... قد تختفي كلماته... وقد تُمحى كتاباته لكنه يبقى موجوداً في العقول والأرواح لا أحد يستطيع أن يورده موارد العدم... إن نشاطه الروحي يُشعر المجتمع بأنه لا زال حياً... إنه الروح الذي يبعث الحياة في صرعى الدنيوية المقيتة. الفكر والحياة هما مثار اهتمام ذهنه وقلمه... الفكر وحده منفصلاً عن دورة الحياة لا يجدي كما يرى... ولا الحياة مجدية إذا كانت منفصلة عن دورة الفكر... بل لا بُدّ منهما معاً... نحياهما معاً... ونتعايش وإياهما معاً... وبنفاذ أحدهما بالآخر يخصبان ويؤتيان بالثمار. فالإنسان عنده ليس بأكثر من فكر وحياة... وكلما زاد تلاحمهما زادت إمكانية صنع الإنسان السوي الذي تسعى العقول الكبيرة إلى صنعه..! إنه رجل تنفيذ لا مجرد رجل تفكير... يهوى الفعل لا القول... إنه -إن شئت- رجل عقل وفكر وهو في الوقت نفسه رجل وجدان وقلب... يجمع بينهما فيما يقول أو يفعل... إنه وحتى الرمق الأخير من حياته سيبقى كما قال- يدفع عن الإيمان ذلك الفكر القتَّالَ الذي يقتل بلادَمٍ... ويذبح بلا سكين... إنه الفكر الذي يجافي الله تعالى ويعاند وجوده... فالأستاذ وهو في آلامه المستكبرة على الأحداث التي تناكفه موصول بحبال منسوجة من خيوط قلبه بجلال الله تعالى... يستمدُّ منه العون والقوة على جحودات الزمن ونكران الأيام...! إن دفاتر التاريخ ستكتب يوماً ما عن هذا الرجل أنه لم يَأْلُ جهداً في الكشف للناس عن أعظم حقائق الوجود وأكبرها، ألا وهي حقيقة ''واجب الوجود''... إنه يملك قلماً صبوراً لا يَمَلُّ... وذهناً دؤوباً لا ينصب... إنه يجهد جهده وكأنّ الجهد شيءٌ معجون بدقّات قلبه ونبضات روحه، بل هو حياته الذي لا حياة له من دونه... فلأحزان قلبه أهمية مغيبة ذات رفعة ملائكية وهي التي تقود خطاه إلى أعظم أفكاره وأجلّ أفعاله محاولاً أن يجلي للأنظار المغزى الكمين، والهدف المقصود في الكون والوجود. بعضهم قال: إنه شهيد على الأرض يحيا... في نيران المحن أُلقي حتى لكأنه بدمه يسعرها ويغذوها... يستهلك ذاته كُلّها في محبة الإنسان... ويعتصر قلبه حتى في أولئك الذين لا قلب لهم...! ورآه آخرون كما يرون لأول مرة شيئاً غريباً لغزياً بالغ الغرابة... يستعصي على الفهم والتصديق... وكذلك القبول...! وآخرون قالوا: إنه دفق شعور فيّاض... ودّيٌّ حبيب متحبِّب... هين لين لكن في قوة... ودود لكن في حزم... متواضع لكن برفعة... سهل ممتنع صعب المرتقى... لا تتقحمه العين... ولا يتوقح في حضرته النظر...! وأيُّ عظيم من عظماء التاريخ لم يتناقض النّاس في النظر إليه...؟!