حتى لا نظلم معنا أحدا، ارتأينا التنقل إلى عدد من الأحياء العتيقة بالعاصمة، والتي شهدت مولد كبار فناني الشعبي العاصمي، على غرار القصبة والرونفالي، سوسطارة، بلكور والعقيبة، باب الوادي و''سيركل'' الاتحاد، كلها ''مراسم'' يلتقي فيها عشاق الشعبي الأصيل. نتساءل كثيرا أين هي حفلات الشعبي الصاخبة والليالي الساهرة التي كانت تشد إليها شباب الأحياء العاصمية حتى مطلع الفجر؟ أين هي ''بنة'' الشعبي القديم؟ هل فعلا لم يعد أحد يهتم بها؟ لماذا تغيرت أذواق العاصميين ممن كانوا يصحون وينامون على أنغام الشعبي؟ الحقيقة أنه لا يمكن بأي من الأحوال الحديث عن الشعبي وجمهوره دون الحديث عن ''قعدات'' الشعبي، إذ يقال إن سكان ''العاصمة'' في وقت ماضي، وخاصة منهم سكان القصبة كانوا يولون ل''قعدات'' الشعبي '' السهرات'' التي كانت تنظم بأحواش البيوت العربية التي لم يبق منها سوى 800 بيت بعد أن كان عددها يصل إلى 12 ألف، أهمية كبرى، لا تضاهى بأي شكل آخر من أشكال الموسيقى. ''قعدات'' الشعبي التي تسير، حسب عدد من المهتمين بموسيقى الشعبي، نحو الاندثار، فقلما صارت تنظم هذه الجلسات التعليمية الترفيهية، وهو أمر صار يثير مخاوف كبيرة من إمكانية ضياع موسيقى الشعبي كموروث موسيقي كلاسيكي أصيل يمثل روح العاصمة التي أصبحت جدرانها تنهار يوما بعد يوم. و''إذا كانت الروح لا تنهار مثل الجدران فإنها يمكن أن تموت يوما ما''، خصوصا أن دور الشباب اليوم لا تلقى الرعاية اللازمة ولا يهتم شباب اليوم كثيرا بتعلم الآلات الموسيقية الخاصة بالشعبي، كما لا يولي المسؤولون المحليون أهمية لذلك، حتى أن بعض دور الشباب المتواجدة بعدد من البلديات يفتقر لأساتذة التربية الموسيقية الذين يدرسونهم أبجديات الطرب الموسيقي. ''العرق دساس والشعبي يهذب نفوس الطغاة'' ارتبطت أغنية الشعبي بمدينة الجزائر العاصمة ارتباطا حميما خاصا، فما سر هذا الارتباط، والمثل القديم الذي تركه أجدادنا يقول ''العرق دساس''. فمهما طغت على الساحة الفنية والطربية من أمور دخيلة إلا أن الأصل لابد أن يفرض نفسه ويبقى هو مهذب العقول والأفئدة، كما يقول محبوب اسطنبولي: ''الفنون أتهذب نفوس من طغاة، والفنون ترقق قلوب من احجر''. في غياب أعمدة الشعبي وظهور الشعبي ''المودارن''.. أوعابد وشعراء القصيد لمن يكتبون اليوم؟ الشعبي كلام نقي وموسيقى راقية تذهب بالمستمع بعيدا، عشاقه من جيل الماضي، وحتى من شباب اليوم، أكدوا خلوه من الكلمات الهابطة السوقية التي تنزع عن المستمع الذوق العالي المترفع عن الهواجس الشهوانية الحيوانية كتلك التي يدعو إليها،بعض مغني الراي في وقتنا هذا. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بحدة، هذه الأيام، لمن يكتب شعراء الشعبي والقصيد إذا كنا لا نجد في مطربي اليوم فنانا واحدا قادرا على التميز بطبعه، بعيدا عن التقليد الأعمى لأعمدة الموسيقى الشعبية التي تربى عليها جيل الماضي، أمثال الحاج محمد العنقى، دحمان الحراشي، عمر الزاهي وآخرين. إلا أن الشاعر الشعبي ياسين أوعابد يؤكد دائما أن هناك أصوات ''الكعب العالي'' التي لا تقيم بثمن، هي من قياس مختلف لا تقل أهمية عن المرحوم كمال مسعودي، وعبد الرحمن القبي والدوادي المدني والكثير من الأصوات الناجحة التي تبحث عن المزيد من الدعم والرعاية، أو على الأقل اهتمام من طرف شباب اليوم الذي صار بشهادة فناني الشعبي أنفسهم لا يمنحون أغنية الشعبي الأصيل اهتماما كبيرا، بعيدا عن القليل من حفلات الأعراس التي صارت تقام في ''قاعات الحفلات'' وبالاعتماد على ''الديسك جوكي''، بعدما كانت ''البنة'' في سهرات ''الباش'' تحت الكرمة وفي الهواء الطلق الرحب. البعض لا يجد من مطربي اليوم فنانا لائقا قصائد تفتقر لأدنى الشروط.. ونشاز في الأداء أما عن واقع الأغنية الشعبية حاليا، فإن عددا كبيرا من الشباب يفتقد لأصوات قوية، بإمكانها مواصلة حمل الأغنية الشعبية على عاتقها مثلما فعل جيل الحاج العنقى، وحتى من خلفه بسنوات. كما أن البعض لم يبد إطلاقا موافقته عما يكتب اليوم من قصائد، فأغلبها لا يمكن تسميتها قصائد لافتقارها لأدنى شروط القصيد، فيما يؤكد البعض الآخر أن من جيل الشباب لا يوجد تماما من يغني شعبي على عكس الجيل الذي سبقهم وعلى رأسهم عبد الرحمان القبي، كمال بورديب، والعنقيس وعبد القادر شعو. أما عن أسباب تضاؤل نسب بروز موسيقى الشعبي مقارنة بما كانت عليه في الأمس يقول فنانو الشعبي ممن تحدثنا معهم إن الكثير من مغني الشعبي اليوم، لا يعرفون حتى وزن الدندنة، فقصيدة الشعبي تخضع لقاعدة الدندنات التي تتضمن سبع دندنات ولو خرج عنها الشاعر لما استطاع الملحن تركيبها على اللحن وهو المشكل الذي أصبح يقع فيه أغلب الفنانين اليوم حيث نحس بنشوز الأغنية في حد ذاتها. رضا دوماز .. ''التلفزة الجزائرية لا تلتفت للشعبي إلا في المناسبات'' لم يخطئ الفنان الشعبي رضا دوماز حينما أعلن مقاطعته للتلفزة الجزائرية التي لا تلتف لفناني الشعبي إلا في المناسبات الدينية عكس الفنون الأخرى، ف''اليتيمة''، مثلما قال دوماز، لا تبذل جهدا في تغيير الديكور الخاص بحفلات فن الشعبي التي تسجل بها وهذا يعني أنها لا تهتم بهذا النوع من الفن الأصيل عكس الأغنية العصرية. ويرى دوماز أن الفن الشعبي رسالة لا تعتمد على الصوت والإيقاع وإنما هي إحساس وتعبير عن المحيط والحب والطبيعة والأخوة بين الشخص والآخر، كما يحمل الروابط المتينة بين المجتمعات ومعاني الفن الشعبي مأخوذة من أصوله التراثية. سيد علي ادريس.. الشعبي موسيقى تعالج النفوس صاحب البرنامج الإذاعي ''القهوة واللاتاي'' الذي يبث على القناة الثالثة، الفنان سيد علي ادريس، أكد أن أغنية الشعبي موسيقى تعالج النفوس، ولا يمكن بأي من الأحوال القول إن جيل اليوم يخلو تماما من فنانين قادرين على إثبات ذاتهم والدليل المهرجان الوطني للأغنية الشعبية الذي يجتهد كل سنة في استخراج عصارة الفنانين الشباب، من مبدعين ليس فقط من وسط العاصمة وضواحيها، بل حتى من شرق وغرب الوطن. عبد القادر شعو.. ''الشعبي في الأعراس .. وراحت بنتو'' مؤسف جدا ما يحدث للمستمع الجزائري الذي ما صار يهتم بالشعبي سوى في الأعراس، حتى أن بنة الشعبي صارت في خبر كان، وصرنا نخشى عليها كثيرا من الاندثار والزوال، حتى أن أعراس اليوم تغيرت عما كانت عليه في السابق، بعدما لم يعد البعض يولي موسيقى الشعبي مكانتها الخاصة بها. طاهر الزهاني.. ''رانا كي الزلابية من شهر رمضان لرمضان'' البعض يرى أن مطربي الشعبي في وقتنا هذا ما عاد لهم نفس الأثر كما في الوقت الماضي، والدليل مثلما أكده الفنان طاهر الزهاني: ''صرنا كي حلوى الزلابية من شهر رمضان لشهر رمضان وفقط''. فأغنية الشعبي التي كان دورها كبيرا في وقت الثورة، صرنا نأسف لعدم اهتمام البعض بحالها، وصرنا لا نلقى الرعاية إلا من وقت لآخر وأخص بالذكر من شهر رمضان معظم إلى آخر.