لقد أصبحت السرقة في هذا البلد مهنة شائعة, وازدادت حدتها في السنوات الأخيرة إلى درجة لا تطاق, فانتشر اللصوص في كل مكان وأصبحوا يقومون بأعمالهم جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد، ولم يعد هناك معنى لمقولة: ''اللص ذليل'' أو ''اللص يسرق في الظلام''. وحيث أصبح الأمر على ما ذكرت فإن هذا يعد نذير شؤم ومقدمة لوضع كارثي ستصير إليه الأمة إن لم تستدرك هذا الأمر وتعالجه بالكيفية المناسبة. والحقيقة أن هذه الظاهرة كغيرها من الظواهر الإجتماعية، فهي لم تنشأ من فراغ، بل لها أسبابها الموضوعية من اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية ساهمت مجتمعة في استفحالها وانتشارها بحدة في السنوات الأخيرة. ومما يخفى على كثير من الناس أن هذا النوع من السرقة يعد أبسط أنواعها وأقلها ضررا على الفرد والمجتمع، ذلك أن للسرقة أنواعا متعددة تختلف باختلاف المجال الذي وقعت فيه فمنها: -السرقة الفكرية التي يتطفل فيها لصوص العلم وأدعياء البحث العلمي على غيرهم من العلماء والمفكرين, فيسرقون أفكارهم وابداعاتهم وينسبونها إلى أنفسهم لينالوا بها الدرجات العلمية والمكانات السامية وما يتبعها من مكاسب مادية ومعنوية. -ومنها السرقة الحضارية كتلك التي يقوم بها الإستعمار قديما وحديثا، فيسرق الشعوب والأمم في وضح النهار بحجة نقل الحضارة إليها وإخراجها من مستنقع التخلف والإستبداد. -ومنها السرقة المقننة حيث تسن فيها القوانين التي تفرض على الناس دفع أموال وغرامات أو اقتطاعات بأسماء مختلفة ومبررات واهية، وبالمقابل تسن قوانين أخرى تشرع لصرف أموال الأمة لصالح فئة أو مجموعة بعينها دون حق أو استحقاق وفق مبدأ اعطاء من لا يملك لمن لا يستحق. ومنها أيضا القرصنة المعلوماتية في فضاءات الأنترنيت ومجالات الإتصال الإلكتروني. وأنما عدت هذه الأنواع الأخطر إذا ما قورنت بالسرقة السوقية -إن جاز التعبير- لأنه لا مبرر لها سوى الظلم والتعدي على حقوق الغير دون أسباب موضوعية قاهرة. أما السرقة التي هي موضوع حديثنا فإن لها من الأسباب الموضوعية -كما ذكرت سابقا- ما يجعلها جديرة بالتماس الأعذار لها، وليس تبرئتها، ومن ثم دراستها في إطار هذه الأسباب والإكراهات، والبحث عن الحلول العاجلة لها، خاصة أن هذا المرض قد تفشى بين طبقات المجتمع ولم يعد مقتصرا على لصوص الأسواق ومحطات النقل فحسب، بل الكل أصبح يسرق -إلا ما رحم ربي- ثم يسمونها بغير اسمها تغطية منهم للشمس بالغربال وتبريرا واهيا لأفعال وصمت جبين هذا الوطن بالعار وأثقلت كاهله بالخزي والشنار. وإليكم بعض عناصر القائمة الطويلة:* سرقة الشعب للكهرباء والماء * سرقة العمال والموظفين لما يقدرون عليه من منتجات ووسائل *سرقة المسؤولين لما يقدرون عليه مما هو تحت تصرفهم *ظهور الثغرات المالية في البنوك ومراكز البريد *التهريب *الرشوة *الإحتكار والزيادة في أسعار السلع في الأعياد والمواسم *التطفيف في الميزان *الغش في المعاملات... ما هي الحلول؟ الحل صعب ولكنه ليس مستحيلا، ذلك أن المرض إذا تفشى واستشرى في الجسد صعب علاجه وندر دواؤه وربما تسبب في بتر بعض الأعضاء حفاظا على بقية الجسد، ولهذا فإذا أردنا أن نقضي على هذا المرض فما علينا إلا الصبرعلى مرارة العلاج، والتحلي بالإرادة القوية والنية الصادقة والإستعداد للتضحية بحظوظ النفس ورغباتها التي لا تنتهي، ومن صور هذا العلاج: 1/ الإكتفاء بالحقوق والأجور المصروفة لقاء الخدمة وعدم تجاوزها إلى غيرها. 2/ الإبتعاد عن عقلية الإمعية في الشرور والموبقات. 3/ القناعة بالرزق الحلال ولو كان قليلا غير كاف. 4/ ترك عقلية التبرير الميكيافلي التي تدفع المرء إلى استحلال الحرام بعد تسميته بغير اسمه. 5/ سن قوانين أكثر ردعية لأولئك اللصوص الذين اتخذوا من السجون فنادق يحنون للعودة إليها، فيتخذون من السرقة والإعتداء على الممتلكات وسيلة لذلك. 6/ سن قوانين ردعية واضحة ضد أولئك الذين يتخذون من المسؤولية مطية لأخذ ما يريدون متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا. 7/ نشر ثقافة الورع بالإلتزام الفعلي وليس القولي ممن هم في مقام القدوة والإتباع وقد عرفنا كيف أدت عفة الفاروق رضي الله عنه وورعه إلى عفة الأمة وورعها أثناء خلافته وخلافة إخوانه من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم وأخيرا فإنه إذا ما انتبهنا لهذا المرض وأحسسنا به وأخذنا هذه الحلول بعين الإعتبارفإني متفائل بغد مشرق يطل على هذه الأمة ويمحوعنها ظلام هذا المرض الذي نخر جسدها وأوهن قوتها وجعلها مطمعا لأعدائها المتربصين بها.