عفاريت ثلاثة سكنت محمد شكري وأردته قطعة بؤس تكتب نصها في الشوارع غير مستحية بتفاصيلها الفاسدة.. شوارع أصبحت وطنه بعد أن ألغاه وطنه وتبرأ منه فأخذ يجرب فيها كل أنواع التشرد والانحراف والنقمة على نفسه وعلى الناس.. من قرأ الخبز الحافي لمحمد شكري لابد وأنه انبهر حد الصدمة مثلي بما ضمنه. من كشف للمستور وما عراه من طابوهات جعلته رائد الجرأة الإبداعية بلا منازع.. ثمة من آخذ عليه ذاك البوح وتلك الفجاجة في تسمية الأشياء بمسمياتها وعرض التفاصيل بحذافيرها.. إلا أن لا أحد ينكر أن ذاك الحد من القول العاري وذاك الحد من الجرأة الصادقة هي التي صنعته وهي التي خلدته كروائي.. لا أخفي أني تأخرت كثيرا عن قراءة للخبز الحافي إلا أن ذلك لم يكن عن تهاون مني بقدر ما كان بسبب فقر مكتباتنا للعناوين الهامة.. على أن قراءتي عن المؤلف المذكور ليست بالجديدة.. فلطاما طالعت ما كتبه النقاد عن الخبز الحافي الذي هز المجتمع الابداعي منذ صدوره.. وأخيرا وجدته في المعرض الدولي للكتاب وقرأته ويمكن لي أن أصنف هذا العمل في خانة الإبداعات ''الشاذة '' بالمعنى الإيجابي للكلمة.. أي انه من تلك الكتب التي يتأكد لك بعد أن تقرأها أنه ليس ثمة مثلها ولا أحد كتب مثلها على الاطلاق في العالم العربي على الاقل . محمد شكري اعترف بخصوص مؤلفه الخبز الحافي أنه تعامل مع اللغة كٍأنه يخلقها وهو لم يعتبرها أداة تواصل.. لقد جعلها في خدمة كشوفاته وتعريته لجراح طفولته وشبابه حيث كان يحس بالصعلكة كنوع من الحياة ،كطريقة للمتعة والتسلية.. منذ الصفحة الأولى لهذه السيرة الذاتية الذي أفلتت من قالب السيرالمعتادة وجاءت كقطعة حية من الوجع الانساني الذي لا يسمح لك إلا بالتعاطف معه وعدم إدانته بل وتقديره لما كشفه لنا وللعالم من أشياء مخزية قد يعيشها كائن إنساني فقط لأنه وجد في ذاك المكان.. في ذاك الوطن.. في تلك الظروف.. هو مثل الناس لكنه لا يحيا مثل الناس.. حياته كانت أقرب إلى حياة الكلاب المشردة.. هو الذي لعب به الضياع كما لم يلعب أبدا وترعرع في وسط البؤس والجهل الحرمان.. اقتات من المزابل ونبش القمامات المنزلية ليملا معدته الخاوية.. عركته المحن حتى سن العشرين.. لا حق الكلاب والمدمنين، عاشر المشردين وقطاع الطرق.. غاص في المواخير وبيوت الدعارة.. ووصف ذلك بغريزته التي قررت أن تقول كل شيء كما جرى وحدث.. ثمة من آخذ عليه هذا الفضح الذي مارسه في كتابه واستنكر أسلوبه الفج والوقح في سرد تفاصيل تشرده وضياعه.. لم يأبه لذلك لا قبل ولا بعد الكتاب.. ألم ير بأم عينيه أباه وهو يقتل أخاه المريض.. ألم يشاهد أمه تهان وتبيع الخضر لتوفر له ولاخواته القوت.. ألم يعش أتعس لحظاته مع أبيه السكير الذي أدمى أيامه وجسده ركلا ورفسا بلا سبب؟.. ألم يأكل نباتات المقابر مع أمه؟.. ألم يسرق ليطعم جوعه؟ ويضرب ليؤمن وجوده في عالم الليل والانحراف؟..فكيف لا تأتي سيرته الذاتية مدججة بالقول الصعب.. بالقول الاحمر بالقول الحرام حتى.. إنها سيرة استثنائية.. تفوح منها شجاعة متأبية عن الوصف والتقييم في سرد كل ما عاناه وكل ما فعله وفعل به بضم الفاء.. كل ما سمعه ورآه.. كل ما كان من قرف وبؤس ومن شهوة وانتقام.. لا يمكن إلا أن تكون هكذا الكتابة من شخص كبره الضياع ورباه الشارع وعلمه الفقر والجوع كيف يكتب هكذا كلمات.. كيف يأكل هكذا خبز.. هذا العمل الابداعي ما كان ليخلد محمد شكري وما كان ليعليه إلى مصاف المبدعين الكبار لولا شدة صدقه وقوة جرأته التي صنعته وخلدته كروائي كبير.. رغم من أبدوا اعتراضهم عن التعابير الفجة والألفاظ العارية التي استعملها الكاتب مما أدى إلى مصادرته أعواما.. ليتولى بعدها الطاهر بن جلون ترجمته واعترف شكري أنه بذلك أسدى إليه معروفا كبيرا.