قادت التحديات التاريخية التي واجهت العالم الإسلامي في تاريخه المديد إلى إفراط الفقهاء في الحديث عن الجهاد بشتى درجاته، التي تبدأ بكبح شرور النفس وتنتهي عند التصدي للغزاة ومواجهة السلاطين الجائرين، لكنهم لم يعطوا اهتماما كافيا لمفهوم ''القوة الدافعة'' الذي يتجلى واضحا في النص القرآني، محدد الملامح والمعالم، ويحمل من الشمول المادي والرمزي ما يوجب الالتفات إليه، والعناية به، والسعي في سبيل تجلية أصله وجوهره، وشرح جوانبه ودعائمه، والانطلاق منه لبناء رؤية تحوي كل ما يتصل به. وينبع هذا المفهوم من الآيات الكريمة التي يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: الآية 251)... لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج، الآيتان: 40 - 41]. فهذه الآيات الكريمة تخبرنا في بساطة ووضوح أن الإصلاح في الأرض يتطلب وجود رأسين متناطحين، وجبهتين متواجهتين، تدفع كل منهما الأخرى، وتصدها وتردها، وتبين لنا أن في هذا الدفع فائدة كبيرة للإنسانية، وصونا لها من الانهيار التام، الذي ينجم إما عن تجبر لا يُقاوم، أو تخاذل لا يثير نخوة، وتؤكد في الوقت ذاته أن ممارسة الدفع ضد الظالمين والغزاة والمتجبرين هو نصرة لله تعالى، ورسالة الأنبياء التي تقوم على عبادة الله بالصلاة له، والاستخلاف في الأرض بإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد حفل التراث الإسلامي باهتمام قوي بهذه المسألة، نظرا لارتباطها بسنن كونية واجتماعية قدرها الله تعالى، ولتمثيلها إطارا يفسر الكثير من السلوكيات والتصرفات الفردية والجماعية، المحلية والدولية، فها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرى في هذه الآيات ما يعني دفع الله بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم، ويزاوج أبو الدرداء بين الديني والسياسي في رؤيته وتفسيره فيقول: ''لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب''، ويضفي عليها مجاهد طابعا قضائيا أو حقوقيا فيتحدث عن دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول، وهناك من قال: ''لولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار''، وتوجد قاعدة فقهية ذهبية تقول: ''دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة''. ويرتبط هذا المفهوم بأمرين أساسيين متكاملين، أو بينهما وشائج وصلات ظاهرة، هما: أولا: الدفاع: وهو وسيلة لحماية القيم النادرة ممن يستهدفها، ويقوم أساسا على قيام الدول والأحلاف بمقاومة الهجوم المادي الذي يشن من قوة خارجية، ويعتمد الدفاع أحيانا على الردع الذي يمنع الطرف الخارجي من القيام بالهجوم أصلا؛ لأنه يدرك أن التكلفة ستكون باهظة، ورد الفعل سيكون ساحقا، وربط بعض علماء العلاقات الدولية بين ضرورة وجود الدفاع وتأصل نزعة الفوضى في النظام الدولي، وتحدثوا عن علاقة طردية بين الأمرين، فكلما زادت الفوضى اشتدت الحاجة إلى وجود نظام للدفاع لدى كل دولة. وقد زاد ظهور الدولة بوصفها الطرف الفاعل المسيطر في العلاقات الدولية اعتبارا من القرن السابع عشر من أهمية الدفاع كأحد مهامها الحيوية، والقدرات الدفاعية ليست موزعة بالتساوي بين الدول، فبعضها قادر على الدفاع عن نفسه، وبعضها لا يستطيع، ويستشعر ضعفه في مواجهة الآخرين، ولذا عليها أن تبحث عن تحالفات ومعاهدات لحمايتها، أو تتوجه كلية نحو الحياد. ثانيا: الدافعية: وهي تعني إنجاز أشياء صعبة، مادية أو معنوية، في أقصى سرعة واستقلالية، والتغلب على العقبات، والتفوق على الذات وتقديرها، ومنافسة الآخرين وتجاوزهم، ولهذا فإن الدافعية تبدو استعدادا نسبيا للشخصية، يحدد مدى سعي الفرد ومثابرته في سبيل بلوغ النجاح، ويترتب عليها نوع معين من الإشباع. والدافعية قوة محركة منشطة وموجهة تدفع الفرد نحو سلوك في ظروف معينة وتوجهه نحو إشباع حاجة أو هدف محدد، وهي تعزز معرفة الإنسان بنفسه وغيره، وتدفعه إلى التصرف بما تقتضيه مختلف الظروف والمواقف، وتجعله أكثر قدرة على تفسير تصرفات الآخرين، والتنبؤ بسلوكهم. ومن حيث المنشأ تتوزع الدوافع على نوعين، الأول فطري مثل الجوع والعطش والأمومة والجنس، والثاني مكتسب يستلهمه الإنسان من بيئته الاجتماعية، كالدافع إلى الإنجاز والتحصيل والسيطرة وحب الاستطلاع والانتماء، ومن زاوية التأثير فهناك دوافع تخلقها مصادر خارجية مثل المعلم والواعظ والرفاق، أو داخلية نابعة من الذات. ويلتقي الدفاع بالدافعية في نقطة ارتكاز مهمة تنطوي على بحث الإنسان الدائب عن الأمن، باعتباره الحاجة الثانية له حسب سلم الغرائز الشهير لعالم النفس الأمريكي ماسلو، بعد غريزة الحرص على الحياة. والحفاظ على الحياة يحتاج في جانب منه إلى امتلاك الفرد والجماعة قدرة على رد كيد المعتدين، سواء بردعهم عن الإقدام على الهجوم، أو بصدهم حين يهاجمون بالفعل، ولعل تعبير ''الدفع'' الذي ورد في القرآن الكريم يعبر عن هذا الوضع بدقة وجلاء، وهو ما يترسخ أكثر بالآية الكريمة التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. والفلسفة العامة التي تحكم عملية ''الدفع'' تقوم على أمرين أساسيين: الأول: أن النفس البشرية تنزع بطبيعتها إلى الشر في أغلب الأحيان، وهي أقرب للفجور منها إلى التقوى، ما يستدل عليه من قول الله تعالي: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [سورة الشمس، الآيات: 7 - 10]، فالآيات قدمت الفجور على التقوى حين تحدثت عن سمات النفس الإنسانية، لكنها عادت لتقدم التزكية على التدسية حين حضت على مقاومة شرور النفس، ودفع كل ما ينحرف بها عن مجال الخير ومداره. الثاني: مركزية قيمة ''الصراع'' في الحياة الاجتماعية والعلاقات الدولية، حيث شاء الله تعالى أن يظل الناس في تهارج وتصارع حتى قيام الساعة، منذ أن تصارع قابيل مع أخيه هابيل وحتى تشرق الشمس من المغرب. وهذا الصراع يتفاوت في الدرجة، ويتعدد في الأشكال، لكنه متواجد دوما، ومرده ليس فقط حظ الشر من النفس البشرية، وتربص الشيطان بها، بل أيضا العوامل المكتسبة والمتجددة، ومنها ما هو سياسي، يتجلى شقه المحلي في التضاغط بين السلطة والشعب، لاسيما في الدول المستبدة والشمولية، نظرا لأن السلطة تبذل قصارى جهدها في سبيل الانفراد بالنفوذ والثروة وفرض الإكراه المادي والمعنوي، والتخصيص السلطوي للقيم، بينما الشعب يكافح من أجل نيل حريته وتحصيل حقوقه وأولها المشاركة في صناعة القرار، أما على المستوى الدولي فإن الدول تتصارع على الحدود والثروات الطبيعية والبشرية، ومصادر الهيمنة وأدوات النفوذ. وهناك عوامل اقتصادية، حيث يتصارع الناس على الموارد التي لا تكفي لإشباع الحاجات، نظرا للتظالم الاجتماعي والدولي، إما في صراع طبقي داخل الدول، أو صراع عابر للحدود والسدود بين الدول الغنية ونظيرتها الفقيرة، أو بين الشمال والجنوب. وعلى الرغم من الجسور الواصلة بين الطرفين بحثا عن تكامل نسبي أو تخفيفا من غلواء الصراع، خاصة فيما يتعلق بالنزعة الاستعمارية، فإن الصراع، ناعما كان أو خشنا، هو الذي يهيمن على الكثير من التفاعلات الدولية، ومع اتجاه بعض الوحدات التي تشكل النظم الإقليمية إلى التوحد في كيانات جامعة، ومنظمات قارية أو جغرافية معينة، فإن الأفكار حول الصراع لا تزال تشكل جانبا بارزا من اهتمامات العديد من المنظرين والكتاب والفلاسفة والباحثين بدليل ما كتبه الباحث الأمريكي صمويل هانتجتون حول صراع الحضارات. وينطوي الدفع في بنيته ومقصده على التوظيف الإيجابي ل''الطاقة الغضبية''، التي لا تخلو منها نفس بشرية ولا حالة إنسانية ولا تفاعل جمعي، ضيق أو واسع، فهذه الطاقة يمكن أن تكون معول هدم، وعامل تدمير وإهلاك، ويمكن، بل يجب، أن تتحول إلى فعل خلاق وخيّر، يقوم على الدفع في اتجاه الصواب والإخلاص معا، بما يعزز القدرة على التصدي للغزاة الطامعين، ويقوي الشوكة ضد الحكام المستبدين، ويساهم في مقاومة الأفكار والعادات والتقاليد التي تشد إلى الوراء، ويساعد الإنسان على كبح شرور نفسه، والتغلب على أهوائه. وهناك نوعان من ''الدفع'' ليس بينهما تعارض، والاكتفاء بأحدهما لا يغني عن الآخر، والتمسك بهما معا ضروري لقطف كل ثمار الدفع وحصد ما زُرع في سبيل تحصيله والإبقاء عليه، الأول هو الدفع المادي، الذي يعني امتلاك الجماعة أو الدولة القدرات المادية التي تؤهلها لردع أعدائها أو إجبارهم على التراجع حين يهاجمونها. وقد أسهبت مدرسة الواقعية السياسية في تحديد ملامح هذا التصور، لاسيما ما أنتجه هانز مورجنثاو، حيث حصرت قوة الدولة في قدراتها الاقتصادية، طبيعية وبشرية، ومساحتها وموقعها الجغرافي، وإمكانياتها العسكرية، عددا وعدة، ومهارة القيادة، ومستوى الدبلوماسيين وكفاءتهم، ونوعية السكان من حيث حجمهم ومستوى تعليمهم وتدريبهم وانسجامهم. وهذه المدرسة لها جذور عميقة في التاريخ الإنساني، وهي تعلي من شأن المصلحة والتعقل، وتبدأ بالإغريق الأقدمين، حيث كتاب المؤرخ توسيديد الذي وسمه ب''تاريخ الحروب البيلوبونيزية''، وتمتد إلى الزمن الحديث حيث كتاب ''الأمير'' لميكافيللي وكتاب ''التنين'' لتوماس هوبز، وبلغت الواقعية ذروتها كنظرية سياسية أو مقترحات حول الفرد والدولة بعد عام ,1940 لاسيما في العالم الأنجلو - أمريكي؛ لأنها حازت قدرة على تفسير العديد من الظواهر التي تبلورت خلال الحرب الباردة، وجاءت المدرستان السلوكية والاجتماعية لتقوضان الكثير من مقولات الواقعية ومناهجها واقتراباتها. لكن هذه المدرسة لم تلبث أن عادت في ثمانينيات القرن العشرين مرتدية ثوبا مختلفا، وأخذت مصطلح ''الواقعية الجديدة''، وظلت محتفظة بقدرتها على الإقناع، وحاجة علماء السياسة إلى مقولاتها في تفسير الوقائع والأحداث، وهذا يدل بشكل قاطع على تأصل النزوع إلى القوة في سلوكيات الأفراد والدول، وتواصل الركائز التي يعتمد عليها هذا النزوع، وهذا كله يُفهمنها حكمة الآيتين اللتين تتحدثان عن ''الدفع'' والآية الثالثة التي تطلب إعداد القوة لردع أعداء الله، وأعداء الخير والنور والصواب. والنوع الثاني من الدفع يتعلق بالجانبين المعنوي والرمزي، حيث يكون للكلمة قوتها وسلطانها، ولهذا جعل الإسلام أعظم درجات الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، بل إن الكلمة الطيبة في حد ذاتها تنطوي على قوة متجددة وتأثير لا ينتهي، وهو ما تبلغه بنا الآية الكريمة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم 24]. ويحفل تاريخ الإنسانية بحالات لا تعد ولا تحصى استخدم فيها فلاسفة ومفكرون وكتاب وعلماء وفقهاء ورجال دين كلماتهم في دفع الضرر وجلب المنفعة، وإعلاء الحق والحط من الباطل