يعتقد كثير من الكسالى والمغفلين أن النجاح عطاء مرتبط بالغيب لا يمكن تفسيره بمعطيات ودلالات معقولة أو ملموسة, فيدفعهم هذا الإعتقاد إلى العيش في عالم الأوهام والأحلام والأمنيات الزائفة، وترك العمل والإجتهاد في إطار الموجود المتاح. والحقيقة أن النجاح فعلا عطاء، ولكنه عطاء مرتبط بشروط موضوعية ارتباط العلة بالمعلول أو السبب بالمسبب كقول ذلك الناجح حقيقة: أأبيت سهران الدجى وتبيته نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي وهناك فئة أخرى ترى النجاح محصورا فيما يحققه المرء من مكاسب مادية في ميدان معين، ولا يهمه إن كانت هذه المكاسب قد تحققت بالكذب ومشتقاته من الغش والتزوير والتدليس والبهتان والإنتحال... والحقيقة أيضا أن المكاسب المادية تعد صورا من صور النجاح، ولكنها لا تنال ذلك الشرف إلا إذا تم النجاح قبلا في اختيار الوسيلة الموصلة إليها، لأن شرف الحقيقة من شرف الطريق الموصلة إليها، ويصدق على الخبث ما يصدق على الشرف، وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم سبب نهي كثير من العلماء عن الأخذ بالحديث الضعيف والموضوع في فضائل الأعمال فضلا عن العقائد والأحكام، مع أن لها تأثيرا بليغا في النفوس في بعض المواطن والمواقف، وحجتهم في ذلك أن تعبيد الناس لربهم صورة من صور نجاح الدعوة والداعين إلى الله، ولكن ينبغي ألا ينال هذا النجاح بالكذب، لأنه لو خول لأحد أن يكذب أو يظلم من أجل نجاح الدعوة لخول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لامه ربه عز وجل يوم عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه، ويوم فعل خلاف الأولى بقبول فدية المشركين في أسارى بدر، وما كتم ذلك عن أصحابه ولا تستر عليه بحجة أن ذلك سيسيء لدعوته أو ينفر الناس عنها، بل إنه اتهم في شرفه ومع ذلك بقي صامتا أياما وأسابيع مرت عليه في شدتها كالسنين الطوال، وما تجرأ أن يأتي بكلام من عنده يفند به اتهامات الباطل بحجة حماية الدعوة والرسالة، لأنه أدرى الناس بأن دعوته لا تحمى بالكذب والتزوير، ''ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين'' الآية. إن عرضنا لهذه المواقف من ارتباط نجاحه صلى الله عليه وسلم بالتزامه خط الصدق والإجتهاد، يأتي في سياق اختلال المفاهيم وانقلابها في عصرنا، بحيث صار مفهوم النجاح مرادفا للوصولية والإنتهازية وهي المفاهيم الأكثر رواجا ومطلوبية في كل ميادين الحياة المعاصرة بلا استثناء، ومن مظاهر هذا النجاح المغشوش ما يأتي: الطالب)ة( الذي يرتبط نجاحه بالغش في الإمتحان، أو شراء النقاط أو مقايضتها بالشرف لا يعد طالبا ناجحا وإن سمي كذلك، والنتائج التي تبنى على تضخيم النقاط والإدلاءات الكاذبة في الكشوف ومحاضر الإمتحانات لا تعبر عن النجاح في شيء، وإنما هو الوهم والتدليس قد تدثر بدثار النجاح كما يتدثر الجاهل بعمامة العلماء، والنتائج التي تسمح بمرور الغث والسمين والمجتهد والكسول من مستوى إلى آخر كما فعلت وزارة التربية العام الماضي ثم توصف هذه النتائج بأنها نجاح باهر للمنظومة التربوية، فهذا ليس من النجاح في شيء حتى وإن سمي بذلك ممن لا يرد له قول ولا ينقض له رأي في مجتمع يقبل الإستخفاف بالعقول ويطرب له أيما طرب، هذه العقول التي جهلت أن النجاح الحقيقي ليس في الأرقام المكبرة الخاوية أو النسب المؤوية المضخمة الفارغة وليس في الشهادات العلمية المزورة التي يحملها أمثال من حملوا التوراة ثم لم يحملوها... كما أنه ليس من النجاح تبوء المناصب التعليمية الكبرى واتخاذها وسيلة للإسترزاق السهل، ثم الدخول في سبات علمي طويل لا بحث ولا إنتاج، كأولئك الأساتذة الجامعيين الذين توظفوا أيام الغفلة والندرة، أو عن طريق الوساطة التحتية أول الفوقية ولا حظ لهم من المنصب إلا إسمه ومن البحث إلا رسمه، ولقد درسنا عند بعضهم ممن لا يزيد عدد المحاضرات التي يقدمها طول العام عن عدد أصابع اليد الواحدة، وفيها تضيق صدورهم بأسئلة الطلبة، ولأن بضاعتهم مزجاة فهم يحاولون جهدهم ألا يتركوا فرصة للأسئلة والمناقشة، بحيث يشغلون الحصة بالإملاء من كتب غيرهم، وحجتهم في ذلك أن البرامج كثيفة وطويلة وينبغي إتمامها في مواعيدها المحددة !فهل هذا نجاح أم استرزاق وبزنسة!؟ وما يقال عن أساتذة الجامعة ''الناجحين'' يقال عن الأطباء الذين لازالو يعطون لمرضاهم أدوية تجاوزها الزمن إلى غيرها أكثر فعالية وتطورا، وهم مع ذلك لا يفتؤون تغادرهم نشوة النجاح في كونهم دكاترة وكفى! ويقال كذلك عن الأئمة والخطباء الذين يحسبون أنهم بلغوا قمة النجاح وهم يلقون على مسامع الناس ما جادت به قرائحم من الركاكة والأخطاء والخطب المنتحلة المملة الثقيلة على الأسماع، مثل ذلك الخطيب الذي ظل يكرر في خطبته جملة: ''الَرَبَاعِم والزَنَاطِم'' ولما اطلع أحد الفضوليين على خطبته وجد أنه لم يحسن قراءة الجملة: الرِّبَا عَمَّ والزِّنَا طَمَّ فما كان من الفضولي إلا أن حوقل وحمدل على أن عوفي مما ابتلي به هؤلاء الناجحون! ويقال كذلك عن الأساتذة والمعلمين الذين يحسبون أنهم ناجحون, وهم يضيعون الأجيال تلو الأجيال بجهلهم وعدم كفاءتهم وبقائهم حبيسي معارفهم ومعلوماتهم القديمة التي نسوها حينما تعلموها مباشرة! وما أروع ما قاله ابن الجوزي رحمه الله عن هؤلاء جميعا: ''أشد الناس عقوبة من لا يحس بالعقوبة وأعظم من ذلك الفرح بما هو عقوبة'' نسأل الله العفو والسلامة من النجاح المزيف والتايوان وللحديث بقية.