لا شك أن الكثير من أصحاب الأقلام سيكتبون ما جادت به قرائحهم وأفصحت عنه دوافعهم بمناسبة يوم العلم، ولا شك أن كل واحد سيكتب موضوعه من الزاوية المتاحة أو التي يراها مناسبة، ولا شك أيضا أن كل هذه الجهود ستعبر في النهاية عن مظهر واحد، هو الإحتفاء والإهتمام بعَلَم من أعلام هذا الوطن العزيز الذي ما اندملت جراحه منذ أمد بعيد، وحتى أشارك أصحاب الأقلام احتفاءهم واهتمامهم بالعلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله، فقد آثرت الكتابة حول هذا الموضوع من الزاوية التي أراها مناسبة مع صعوبتها وخطورتها، وتركت المتاح الموجود مع سهولته وتوفره، كالحديث عن حياة الشيخ وجهوده ومآثره ومعاناته في حمل أثقال الإصلاح والتربية والتعليم وما أثقلها من أحمال. آثرت الكتابة في هذه المناسبة عما تنتهجته المنظومة التعليمية والتربوية في وقتنا، كرسالة شكوى وألم إلى عالم الأمة الذي وافته المنية بعد أن وضع السفينة في مسارها الصحيح، وهيأ لها من يتولى زمام قيادتها إلى بر الأمان، ومن ثم مواصلة الرحلة الحضارية الدائمة بدوام محطاتها على درب المستقبل الطويل. آثرت الكتابة في هذا الموضوع بعد أن تمثلت نفسي واقفا أمام هذا الطود الشامخ، أشكو إليه حال منظومتنا التربوية والتعليمية، وحال شباب هذا الوطن ممن ذاق طعم هذه المنظومة وتكون في مدارسها وثانوياتها وجامعاتها، ولكن ما فتئ معظمه يعيش في تيه واضطراب لا يكاد يستقر على قرار صالح مصلح، أو يرسو على مبدأ ثابت نافع، فهذا الشباب يا سيدي الذي تحدثت عنه في قصيدتك المشهورة ''شعب الجزائر'' لم يعد في مستوى ذالك الوصف، ولا في مستوى تلك الآمال والتطلعات التي أفصحت عنها في حياتك، لأن منظومتنا التربوية والتعليمية التي أنيطت بها مهمة صناعة هذا الشباب وفق ثوابت الهوية ومتطلبات العصر وتحدياته، صارت تهتم بإنتاج الأرقام والنسب المضخمة والمسمنة، على حساب التحصيل الحقيقي والمعايير الموضوعية في مجال التعليم والتقييم وإلا كيف يمكننا تفسير هذا الإنتشار المتزايد للمظاهر السلبية في أوساط التلاميذ كالتدخين والمخدرات والعلاقات المشبوهة واستعمال الهاتف النقال والأنترنيت فيما لا يشرف ولا يسر، والاعتداء على الأساتذة وضربهم وعدم احترامهم والعزوف عن التحصيل العلمي، وكثرة الرسوب المدرسي والمغادرة المبكرة لمقاعد الدراسة... وبما أن الأمور تعرف بأضدادها, فإننا نقول أن النشء الجزائري الذي عقد عليه الإمام آماله لم يعد اليوم على ما كان عليه آنذاك, رغم تحرره من أغلال الإستعمار الفرنسي البغيض, ذلك أن الشباب الذي عناه الإمام, هو شباب معتز بهويته قوي بقوميته سعيد بنسبه وشخصيته وانتمائه متمسك بعقيدته مرتبط بوطنه وجذوره, لا يرضى المذلة في سبيل الملذة ولا تغريه المناصب فيضحي بالمكاسب ولا يتلذذ بشتم الذات تعبيرا عن سخطه على الحياة. هو شباب كان فعلا مسلما, حتى وإن كان إسلامه وراثيا لأن في الإسلام الوراثي من المحامد مثل ما في دين العجائز من الفطرة السليمة إذا قورن بتدين أرباب الكلام المذموم, وكفى الإسلام الوراثي شرفا أنه لم يدفع الجزائري آنذاك إلى الخوض في القضايا الجزئية المجزئة والمشتتة لشمل الأمة والدافعة إلى التبديع والتفسيق والتكفير والحروب الوهمية وتبادل التهم والشتائم على المنابر وفي الأسواق والمقاهي أو إلى استحلال الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال في أي صورة وبأي ذريعة. هو شباب كان فعلا مسلما, لأن خوفه من فرنسا كان نابعا عن عقيدة إسلامية, وبالتالي كان خوفا على العقيدة نفسها من الطمس والفتنة والردة إلى دين النصارى, كما يفعله الكثير من شباب أمتنا اليوم عن طواعية واختيار، ولم يكن خوفا من قطع بواخر الموز والدقيق والسيارات وشبكات البث الفضائي وسائر منتجات المدنية الغربية. كان خوفا وصفه الطبيب فرانز فانون وصفا جميلا, حين أقر أنه صادف في الجزائر حقيقة اجتماعية متميزة أيام الإستعمار, وهي أن القرويين الجزائريين كانوا يبرزون حالة من الرعب تجاه كل ما كان غريبا عنهم, من نتيجتها حالة هروب إلى الداخل, حتى وإن كان هذا الغريب فرق الصحة الفرنسية التي تقوم بعلاجهم, كما يصف أحد المفكرين هذا الخوف بأنه رد فعل منطقي وطبيعي وإيجابي لمجتمع أحس ويحس دائما أنه مجال لهجوم الأعداء. هو شباب كانت تعقد عليه الآمال فعلا, لأنه كان في مستوى المسؤولية والحياة بخطوبها وأخطارها, ولم يكن جيل الموجة الجديدة الذي نسي ذاته وحقيقته واتجه صوب الشرق أو الغرب يبحث عنها فوجد بعضهم أن تحقيق الذات يكون في تغيير نوع اللباس وشكل المظهر بأن يكون مسايرا للنمط الغربي فصرنا نرى من الألبسة ما يعجز القلم عن وصف غرابته وطرافته وحماقته وآخرها فيما أعلم لبس سراويل وعقدها تحت الحقو وترك اللباس الداخلي ظاهرا للعيان حتى يبدو لك أن صاحبه أو صاحبته لم ينتبها للسروال الذي يكاد يسقط! كما ظهر في المقابل صنف يرى أن تحقيق الذات إنما يكون في حلق الشوارب وترك اللحية تطول وتطول ولبس أنماط توقيفية محددة من الثياب لدى الجنسين وأن سبب مصائبنا وتخلفنا هو مخالفة هذه الهيئة التوقيفية! وبسبب وجود هذين الصنفين ظهر صيادو الفرص من التجار الذين وجدوا في أمثال هؤلاء خير وسيلة للربح فازدهرت تجارتهم وكثرت محلاتهم بما لا يخفى على أحد. هو شباب رفع سلاح النار في وجه الإستعمار, كما رفع سلاح العلم والعمل في وجه الجهل والتخلف, أما شباب اليوم فماذا رفع غير شعار الأوهام والأحلام والإستيلاب الحضاري والتدين النظري، وعدم الوعي بالغرض الحقيقي الذي من أجله وجد في هذه الحياة. لست متشائما بقدر ما أنا متفائل بأننا إن اتخذنا من هذه المحطة منطلقا للوفاء بالعهد الذي أخذه علينا الإمام في قصيدته وحياته, وبما تمثله فينا من الخير وصلاح ذات البين والعطاء للدين والوطن... فإن الخطأ سيصحح والأمل سيتحقق والحلم بغد مشرق سعيد ليس ضربا من الخيال. 1عندما سئل وزير التربية عن سبب نقل كل تلاميذ السنة السادسة أساسي إلى التعليم المتوسط مع وجو م الكثير ممن هم غير مؤهلين لذلك وهو ما يتنافى مع معايير النجاح والإنتقال أجاب بقوله: هذا يدل على أننا نرحب بكل أبنائنا! ووالله إنني لم أفهم لحد الآن ما علاقة هذا الجواب بالسؤال المطروح ؟! 2فانون فرانز عمر 1925-1961 مفكر سياسي من جزيرة مارتينيك قرب مدغشقر شارك في كفاح الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي وكان متخصصا في الطب النفسي والبشري وقد عمل في مستشفى بليدة من أشهر مؤلفاته ''معذبو الأرض'' سنة 1961 3هو المفكر الإيراني علي شريعتي 1933- 1977