العبارة المدونة أعلاه هي ما قالته سيدة أمريكية اسمها''مونا'' لجارتها بينما كانت حافلة الحجاج الأمريكيين منطلقة من تل أبيب باتجاه القدس. وكم شدتني هذه العبارة بعد قراءتي مقالا للأستاذ فهمي هويدي الذي ذكر أن هذا الرأي لم يكن رأي'' مونا'' وحدها ولكنه يمثل إقتناعا راسخا لدى جميع أولئك ''الحجاج'' الانجيليين ممن يؤمنون بأن قيام إسرائيل هو تعبير عن إرادة الله كما وردت في العهد القديم. ومن ثم فإنهم يتعبدون بدعم إسرائيل وتأييد كل ما تفعله باعتباره من تجليات تلك الارادة الإلهية سواء كان ذلك غزوا للبنان أو إبادة للفلسطينيين قديما- وأخيرا في حرب تموز وغزة- وهو ما ترحب به تلك الجماعة من المؤمنين بحسبانه تنقية لأرض الميعاد من الكائنات الشريرة'' وربما لن يكون لي أي فضل في هذا المقال سوى إعادة التذكير بما كتبه الاستاذ فهمي هويدي ذات يوم في التسعينات ليرى القارىء حقائق كثيرة لم تتغير لدى بعض الامريكيين حكومة وشعبا مما يدفع الملاحظ لابداء الدهشة والعجب ضاربا كفا بكف مرددا ''ما أشبه الليلة بالبارحة'' كانت الجارة التي سجلت هذا الكلام هي ''جريس هالسل'' مؤلفة كتاب النبوءة والسياسة'' أما ركاب الحافلة فقد كانوا جماعة من المسيحيين الانجليين البروتستانت الذين يفوق تعدادهم في أمريكا 40 مليون شخص، ويمثلون قوة هائلة وداعمة لاسرائيل، وهم الذين يرون العالم بمنظار العهد القديم، وينشرون حاضره ومستقبله في ضوء نصوصه وترقعه وإسقاطاته فيؤمنون بأن اليهود هم شعب الله المختار، وأن الله منحهم الارض المقدسة، الممتدة من النيل إلى الفرات، وأن قيام إسرائيل وإنتصارها هو مرحلة على طريق العودة الثانية للمسح هادما لمملكة الشرفي معركة باسم ''هرمجدون'' ستقع على أرض إسرائيل- ومخلصا المؤمنين إلى الابد- وحسبما ذكرت جريس هالسل المؤلفة فقد كانت واحدة من هؤلاء لا تعرف الشرق الاوسط إلا من خلال الكتاب المقدس، ولا تتصورأن هناك أحدا غير اليهود يقطن أرض الميعاد وفلسطين بالنسبة لهم كانت أرضا مهجورة، حتى جاءها أولئك العبرانيون، ذوو العباءات الفضفاضة، فعمدوها وأستملكوها تنفيذا لوعد الله. غير أن المقادير شاءت أن تخرج جريس من المحيط الذي نشأت فيه، وأن تطوف بعدد من بلدان الدنيا، وأن تتقلب بين الصحافة والتأليف والعمل في البيت الابيض ، الأمر الذي مكنها من أن ترى العالم بعينين أخريين وأن تقترب من حقائقه بعيدا عن ثقافة العهد القديم. صدمتها المفارقة المذهلة بين الذي لقنته والذي اكتشفته ، فكرست نفسها لكشف الأسرار، وغوامض عالم الإنجيليين المثير، المليء بالاساطير والخلافات والحيل والألاعيب والذي تستخدم فيه أنبل المواطن الايمانية لتنفيذ أخبث المخططات والمقاصد ومن حصيلة تجربتها أخرجت ذلك الكتاب المهم ''النبوء والسياسة'' الذي ترجمه إلي العربية الباحث اللبناني الاستاذ محمد السماك. التقت ''جريس'' فلسطينيا لأول مرة في سنة 1979 وتأكدت بنفسها من أن هناك شعبا فلسطينيا لايذكره الخطاب الانجيلي الصهيوني، وعرفت من ذلك الفلسطيني أنه أجبر تحت التهديد بالسلاح - على ترك أرضه التي ورثها عن أجداده العرب لصالح المستوطنين الاسرائيليين. كانت في إسرائيل ضيفة على إثنين من الامريكيين يقيمان في مستوطنة بالضفة الغربية، وسمعت منهما كيف أنهما استخدما المسدسات ومدافع ''عوزى'' لمصادرة الارض من الفلاحين الفلسطينيين حيث قال أحدهما إسمه ''بوبي بروان'' '' إن الله أعطى هذه الارض لنا، نحن اليهود'' سألت وقتذاك ما علاقة ذلك اليهودي القادم من بروكلين بالعبرانيين الذين وفدوا إلى هذه الارض قبل 2000عام؟ وكيف يمكن أن يعتبر الرجل أنه له حقا في تلك الأرض التي عاش فوقها الفلسطينيون طوال ألفي عام الماضية؟ وكيف يمكن لدولة حديثة تدعى إسرائيل على أن نصنف صهيون التوراتية الاسطورية؟ وهل صحيح أن لله شعبا مختارا؟ وهل صحيح أن الرب وهب تلك الارض حقا لليهود؟. أمثال تلك الاسئلة ظلت تراود ''جريس هالسل'' وتلح عليها فقدرت أن تعاود زيارة إسرائيل مع أفواج الانجيليين الصهاينة الذين لا تنقطع رحلاتهم إلى الأماكن المقدسة، وأن تتبع أنشطة الذين يروجون من الانجيليين للأوهام والاساطير التوارتية في الولاياتالمتحدة. وقفت المؤلفة طويلا عند معركة''هرمجدون..'' لكنني قبل أن أمضي في وقفة الكاتبة عند معركة ''هرمجدون'' أردت أن ألفت النظر أنني لمست من بعض الفلسطينيين الذين درسوا في الجزائر استمساكا عظيما بأرض فلسطين، وتشبثا بتربها وهوائها ربما قد لا يوجد لدى الكثير من الناس الذين إذا أتيحت لهم فرصة الخروج من بلدانهم فهربوا غير آسفين على ما تركوا، هذا التشبث الذي رأيته ما جسدته أمامي في صورة غير متحركة غير صورة شمسية تعمدت أن أجعلها ضميمة لموضوع كان قد مر في جريدة الحوار البارحة عنوانه ''اليهود يطالبون بترحيل الفلسطينيين إلى فنزويلا'' وفي هذه الصورة إمرأة تعانق شجرة كما تعانق الأم وليدها، يراها يهودي من بعيد على دبابته وكأنه يسأل نفسه أثناء رؤيته هذا المشهد: هل سنفلح نحن الوافدين من بولونيا وأمريكا الجديدة وألمانيا والمجر إلخ... في قلع جذور هؤلاء الفلسطينيين، أم أنهم ضاربون هم أيضا بجذورهم في أعماق التاريخ مضرب هذه الشجرة في أعماق الترب؟... ألم يغالطنا ساستنا ورجال الدين عندنا حين أوهمونا وحاولوا إقناعنا بكل ماقدروا عليه من أن هذه الأرض التي جلبونا إليها هي أرض الميعاد ؟ على كل حال ذكرنا وقفة المؤلفة الطويلة عند معركة ''هرمجدون'' ، ونظرا لضيق المقام فإننا سنفرد لها الحلقة القادمة إن شاء الله.. يتبع