لا يختلف اثنان أن الموت حق ويقين، وهو أجل محتوم يكتب على الإنسان قبل أن يولد، وذلك بتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: "إِنَ أَحَدَكمْ يجْمَع خَلْقه فِيْ بَطْنِ أمِهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَا نطْفَة، ثمَ يَكوْن عَلَقَة مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَ يَكوْن مضْغَة مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَ يرْسَل إِلَيْهِ المَلَك فَيَنفخ فِيْهِ الرٌوْحَ، وَيؤْمَر بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌ أَوْ سَعِيْدٌ" (البخاري: 3208، مسلم: 3643، الترمذي: 2137). فمنهم من يتجاهله، ولا يحسب له حسابا، وقد يأتي بغتة، ومنهم من يستعد له، ويعد له عدته، حيث تتباين طقوس وعادات وتقاليد مجالس العزاء ومراسيم قبول التعازي باختلاف الأمم والأعراق البشرية، وبيد أنها عند المسلمين مستوحاة من السنة النبوية المطهرة، أو هكذا يجب أن تكون، إلا أن واقع مجالس العزاء ومواساة أهالي وذوي الميت لم تسلم حتى عند المسلمين من الطقوس والعادات والتقاليد الدخيلة على تعاليم الإسلام. اتصفت مراسيم العزاء في الجزائر إلى وقت قريب - ربما لا يتجاوز الأربعين عاما- بأداء واجب العزاء وصدق مشاركة أهالي المتوفى أقراحهم و أحزانهم في ميتهم، والوقوف معهم، إذ طالما حدثتنا الأمهات والجدات عن صور مثلى للتكافل الاجتماعي والترابط والتراحم الأخوي بين أبناء الجيران والأقارب وأبناء المتوفى، لا سيما أولئك الذين تركوا أطفالا صغارا أو أبا أو أما ليس لهما عائل بعد الله إلا الابن المتوفى، هنا تظهر صورة العزاء كما أمر بها الدين الإسلامي، فالتقارب المجتمعي آنذاك كفيل بتحقيق نسبة عالية من التكافل الاجتماعي، حيث لا يقتصر الأمر على العزاء ومحاولة التعزي بالصبر والاحتساب بل يسبقه في أن الأهالي قديما كانوا يشاركون أهل المتوفى في تجهيز جنازة ميتهم وغسله، كما يشاركونهم في نشر خبر الوفاة سعيا لجمع عدد أكبر من المصلين والمشيعين، ورغبة في زيادة الدعاء وطلب الرحمة على الميت، حينها لم يكن للعزاء مراسيم و"بروتوكولات" أشبه بالمراسيم التي تعيشها كثير من مجالس العزاء في مجتمعنا الحالي، بل كان البعض يقصر تقديم واجب العزاء على السلام على ذوي المتوفى في المسجد أو في إحدى الطرقات، لكنه في الغالب يحرص على ما فيه أجر له وللميت في حضور الصلاة والتشيع والدفن، مع حرصه على تلمس حاجة ذوي المتوفى والسعي في حوائجه وحوائج أبنائه.وما مجتمعنا إلا جزء من هذه المجتمع المسلم الذي تحاول الاتحاد أن تستعرض كيف كان حال مجالس العزاء في وفي مجتمعنا قبل أكثر من خمسين عاما، وكيف أضحت في عصرنا الحاضر من مظاهر وطقوس أصبحت مظهريا في معظم أحوالها وظروفها، إذ تسابق الناس إلى فتح أبواب منازلهم في مظهر يوحي بالاحتفال لا بالعزاء. "قهوة ولاتاي".. عندما يحول العزاء إلى ميدان للمفاخرة تبقى المشاعر الأحزان والتعازي صادقة كما هي إذ لا ريب أن الإنسان مجبول على صدق محبته لذويه، ففراق الأحباب والأصحاب ينكث في أعماق النفوس الكريمة حزنا وأسى على فراق من تحب، ولكن أن يصل الأمر موائد الطعام و"البوفيه المفتوح" وبرادات الشاي والقهوة التي لا تنقطع، وكأن الأمر أصبح ميدانا خصبا لاستعراض مظاهر الكرم، ويستقبل ذوي الميت "معازيمهم" عند باب الدار مرحبين بمقدمهم، ناهيك عن ضحكات البعض هنا وهناك وتزاحم نغمات الجوال وانغماس بعض الحضور في الحديث عن أمور الدنيا، ومسارعة البعض الآخر للإعلان عن عزائه لذوي المتوفى عبر الصحف والجرائد أو عن طريق رسالة عابرة عبر جواله المحمول، حتى إن بعضا من الأقارب والجيران يجدون في العزاء فرصة للتلاقي.مثل هذه الطقوس "الاحتفالية" للعزاء -وإن انتشرت في مجتمعنا الجزائري الحالي- لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمها على كافة أفراد وفئات المجتمع، فانتشارها عند بعض الفئات والأسر، لا يعني -أبدا- التقليل من مشاعرهم الصادقة تجاه ميتهم، أو أنهم راضون على مثل هذه المظاهر التي ابتلوا فيها، لا سيما وأن البعض يربط بينها وبين حسن استقبال الضيوف وضرورة تقديم واجب الشكر لهم وإكرامهم على شعورهم النبيل ونزولهم في محله. موائد العزاء.. تنافس على الكرم وفي الموضوع التقينا بنوال والتي توفي حماها منذ عشرة أيام حيث قالت:" لا ريب ولا شك أن العزاء أمر مستحب، والغاية منه تعزية أهل المتوفى، ومشاركتهم أحزانهم، وهو من حقوق المسلم على أخيه المسلم، لكن لاحظت أن أهل زوجي تجاوزوا الأمر، وجعلوه من الضروريات الاجتماعية الواجب فعلها، حيث استأجروا صالة لاستقبال المعزين، والمجلس لم يخلو من المخالفات والسلبيات والإسراف، حيث قدمت أنواع الأكلات والحلويات والمشروبات والسهر لأوقات متأخرة، كما أن شقيق زوجي الأصغر أحضر سجلا يكتب فيه من جاءهم للتعزية، لذلك أنا أرفض بشكل قاطع البذخ و الإسراف والتي تخلف وراءها ذيول الإرهاق المادي، وأؤكد على أهمية تحديد وقت العزاء تقول نوال عشاء الميت من المطعم مباشرة ويقول ناصر صاحب مطعم معروف لتوصيل طلبات الطعام إلى المنازل أشار إلى أن طلبية الطعام تختلف من عائلة إلى أخرى حسب الماديات وما متعارف عليه لدى العائلة فمنهم يطلب المشوي، وأطباق "الجوازات" من جلبانة و حمص بالدجاج وغيرها وذلك لمدة ثلاثة أيام. عندنا عزاء .. هيا بنا نحتفل تقول عبير ذهبت إلى عزاء والد صديقتي في رمضان المنصرم، وجدنا جمع غفير من أحباب وأصحاب في هذا الجمع، قد ينسى الإنسان أو يتناسى أن نهايته لا ريب فيها ولا تأخير وان النهاية واحدة، خاصة أولئك الذين أصبحوا لا يفرقون بين أماكن العزاء أو الندوات، حيث شاهدت ذلك الأسلوب ( المعوج ) من هؤلاء الشخوص وهم يتناقشون وبأصوات عالية في أمور لا دخل لها في واجب العزاء الذي جاءوا من أجله، يجلسون شلة شلة، حيث تتعالى قهقهات بعض النسوة، اللاتي لم يمتنعن عن الهمز واللمز و لا ينتبهون للمصيبة التي حلت على أهل المتوفى ولا يعتبرون بالموت ..فيما تقاطع الحديث والدة عبير قائلة أنها في أحد بيوت العزاء شهدت مشادة بين امرأتين بسبب صحن الزلابية، وأخرى تنادي بأعلى صوتها " ما كانش في هاذ الطابلة قلب اللوز.." وتضيف أن يذهب الناس إلى العزاء ليتبادلوا الضحكات .. والذي أصبح مكانا لتناول المكيفات والوجبات الدسمة وكأننا في مطعم يأتيك فيه النادل ليدون ما تطلبه من أكل. أطباق صارت لا تخلو منها موائد العزاء وتقول الحاجة سعدية أن موائد العزاء باتت كالمطعم لديه "menu" يحوي كل ما لذ وطاب من مقبلات، طبق الرئيسي، مشروبات ساخنة، عصائر ومشروبات غازية، حلويات وكرواسون وبريوش.. الخ. أنسب مكان لعقد الصفقات أما جعفر فقال أن مجالس العزاء اليوم أصبحت تفتقر للياقة والأخلاق، جعلت من أماكن العزاء تجمعات للونسة والنقاش في الكرة والسياسة والقطيعة والنميمة، والشيء الذي حز في نفسي هو أنني شاهدت اثنين يتبايعان ويعقدان الصفقة ثم يتوجه احدهم إلى سيارته ويخرج دفتر شيكاته ويوقع الشيك ليسلمه لرفيقه ..أمام الجميع وكان ابن المتوفي قريب يشاهد الموقف . البذخ والإسراف في العزاء بدعة ومنكر سئل سماحة الشيخ بن باز رحمه الله عن حكم البذخ والإسراف في العزاء، حيث يتكلف أهل الميت بإقامة الولائم للمعزين، وعادة اليوم الثالث واليوم السابع، والأربعين فقال أن هذا لا أصل له، بل هو بدعة ومنكر ومن أمر الجاهلية، فلا يجوز للمعزين أن يقيموا الولائم للميت، لا في اليوم الأول ولا في الثالث ولا في الرابع ولا في الأربعين أو غير ذلك، هذه كلها بدعة، وعادة جاهلية لا وجه لها، بل عليهم أن يحمدوا الله ويصبروا ويشكروه سبحانه وتعالى على ما قدر، ويسألوه سبحانه أن يصبرهم وأن يعينهم على تحمل المصيبة، ولكن لا يصنعون للناس طعاما.ولكن يشرع لأقاربهم وجيرانهم أن يبعثوا لهم طعاما، لأنهم مشغولون بالمصيبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصله نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتل في مؤتة بالأردن أمر صلى الله عليه وسلم أهل بيته أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما، وقال: "إنه قد أتاهم ما يشغلهم"، أما أهل الميت فلا يصنعون طعاما لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثالث، ولا في الرابع، ولا في العاشر، ولا في غيره. ولكن إذا صنعوا لأنفسهم أو لضيفهم طعاما فلا بأس، أما أن يجمعوا الناس للعزاء ويصنعوا لهم طعاما فلا يجوز لمخالفته للسنة. فأين الناس من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام في حرمة التبذير والإسراف