مفاهيم عديدة تغيرت مع تغير الزمن، وعادات أصيلة كانت راسخة في المجتمع الجزائري اندثرت وتناساها الناس وانطوت تحت مسميات عديدة وابتعد من خلالها عن جوهرها الحقيقي. التأبينية لما لها وما عليها من أثار حميدة حسب ما يراه البعض وأخرى دخيلة على مجتمعنا ، تأثرت هي الأخرى و لحقت بركب القيم والعادات الأصيلة التي لم تسلم من تغير الزمن. مراسيم غيرها الزمن.. وقيم جردت من معانيها الحقيقية فلطالما عرف المجتمع الجزائري بالكرم والجود والنخوة خاصة عند الشدائد، فمن المتاورث والمتعارف عليه في مجتمعنا عند الجنائر وفي مراسيم العزاء، أن الأهل والأقارب من أهل الفقيد يلقون الدعم والمساندة المطلقة من الجيران والأحباب فضلا عن الأهل، حيث تقدم لهم الرعاية والمساندة اللازمة طيلة الفترة التي يمرون بها، فلا هم لهم ولا مصلحة في ما يقدمونه الا ابتغاء مرضاة الله و الوقوف الى جانب أهل الفقيد، والتخفيف عنهم في المصيبة التي ألمت بهم،لا لشيء إلا في سبيل الله وشعارهم في ذلك " أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". لكن للأسف الشديد أضحت هذه الصور و هذه القيم الأصيلة في مجتمعنا، مجرد شعارات جوفاء ينادي بها الجيران، فقد أضحت مراسم العزاء مجرد " بروتوكول" أو واجب فرضته الجيرة والقرابة، فقد تجردت هذه المراسم من انسانيتها وتحولت الى خيمة أو دار الايواء ليس للفقراء والمساكين بل الى الأهل والجيران، الذين من المفترض من يبادرون الى اقامتها في سبيل الأصل والمعروف في حق الجيران والمصيبة التي ألمت بهم. موائد الصدقات تتحول إلى مأدبة فاخرة على روح الميت ولعل ما زاد الطين بلة في تفاقم هذه الظاهرة، التي أثارت حفيظة واستياء العديد من المواطنين التي اعتبروها دخيلة على مجتمع يعرف الأصول جيدا، سيما وأن مراسيم العزاء تحولت إلى مؤدبة فاخرةتقدم فيها أجود أنواع الطعام الى الزوار المقبلين على أهل الميت، فحسب السيدة "كريمة" التي تروي ما شاهدته بعد عودتها من مراسيم تأبينية أحد جيرانها الذي توفي مؤخرا، حيث تقول أنها اندهشت لما شاهدته، فأول ما شد انتباهها هو المائدة التي دعت اليها حيث تقول أنها اندهشت لما رأته هناك فكل ما كان في المكان يدل على أنك في عرس أو "وليمة" سوى أننا في جنازة. فقد قدمت لنا أجود أنواع الطعام و المشروبات وحتى الفاكهة بعد ذلك، فحسب ما توضحه السيدة كريمة أن مثل هذه الموائد و كل ما قدم في المراسيم، لا يمكن تقديمه إلا في الأعراس والمناسبات السعيدة. ففي وقت ليس ببعيد حسب ما يراه السيد محمد، أن التأبينية كانت تقام على أنها صدقة تقام من طرف الأهل لروحالفقيد، لكنالوقت تغير وتغيرت معه عقليات الناس حسب ما يراه ذات المتحدث. عادات... يستحسنها البعض ويراها آخر مناقضة للقيم الجزائرية الكثير من الناس وعلى بساطة تفكيرهم، وحسن نيتهم التي تقودهم الى اعتبار مثل هذه التصرفات التي تقام في التأبينيات مجرد صدقة تقام على روح الميت، الى درجة أصبحت لدى البعض فرض عين، ومن الواجب أن تقوم عائلة الفقيد بذلك، وهذا تفاديا " للقيل والقال"، أو كلام الناس عن أهل الميت الذين بمجرد عدم قيامهم بما هو شائع ومتعارف عليه في أيام العزاء، فقد أصبحت تقام بدعوى أنها صدقة يقيمها أهل الميت، في الوقت الذي من المفترض أن الأصول والعادات الجزائرية تصر على تقديم المساعدة والعون لأهل الميت، والأصول في مجتمعنا وحسب العديد من الآراء تقول أنه من المفترض أن أهل الميت يمرون بوقت عصيب لا يمكن أن نلومهم أو نحاسبهم على شيء، فبدل أن تقدم لهم المساعدة والعون من الأخرين، أصبح هؤلاء يتجرؤون على الاقبال على الموائد التي يقيمها اهل الميت، وذلك تحت مسمى الصدقة . الأستاذ احمد رباج: "الصدقة على روح الميت أمر جميل ولكن بطريقة لائقة وشرعية" بين هذا وذاك وبين مرحب بالفكرة وبين معارض لها، يرى الأستاذ الشريعة بكلية العلوم الاسلامية بالعاصمة، أحمد رباج، أن بعض العلماء اعتبروا التأبينية من الأمور التي لا تجوز ورفضوها جملة وتفصيلا، وحجتهم في ذلك على أنها تجديد الأحزان عند أهل الميت، بالإضافة الى أن الموائد التي أصبحت تقام عند أهل الميت وعلى روح الفقيد، والتي يعتبرها الكثير من الناس على أنها صدقة فهي في حقيقة الأمر، تبذير وإسراف لأن الرسول صل الله عليه وسلم يقول : " اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"، ومنه إذا أراد الانسان أن يتصدق على الميت فلابد أن يكون بطريقة أخرى، لأن استحسان مثل هذه الأمور يكون من البدع ومن العادات السيئة، لأنها نسيان للمناسبة الحقيقية أو بمفهوم آخر هي انحراف عن المعنى الحقيقي للعزاء، وان كان الغرض من اقامتها شريفا الا أن أصل التفكير فيها خطأ. لهذا لابد أن يسير الجميع وفق الشرع، ولابد من نصح هؤلاء الناس بالطريقة الحسنة وبالكلمة الطيبة، لأن الظاهرة قد ترسخت بطريقة أو بأخرى في تفكير المجتمع الجزائري، لذا علينا أن نذكر هؤلاء عن طريق الأدلة والبراهين أن الصدقة على روح الميت أمر جميل و لكن الطريقة التي قدمت بها غير لائقة خاصة وأن ديننا ينهى عن التبذير مهما كان أشكاله وطرقه، وهو ينهى عن اتباع ما أمر به الله ورسوله الكريم.