تتوالى ردود الفعل في العالمين العربي والاسلامي على نشر الفيلم المسيء للنبي محمد وما شكله من استفزاز كبير لمشاعر مليار ونصف من المسلمين في جميع ارجاء العالم، هذه الاساءة ليست الأولى ، فمسلسل الاساءة لرمز ديني كالرسول محمد موجود منذ إنطلاق الدعوة الاسلامية ، وسبق لبعض الكتاب الغربيين أمثال مارتن لوثر أن كتب وأساء وهاجم، ومازالت كتبه تملأ المكتبات، القضية ذاتها عادت هذه المرة في ظرف خاص، جعلها تأخذ طابعاً اكثر جدية وشراسة، لاسيما بعد ما يسمى بالربيع العربي و صعود الحركات الإسلامية في الدول التي شهدت هذه الثورات، توقيت هذا الفعل(نشر الفيلم) ورد الفعل ، موضوع سأطرحه في مقالة اخرى، لكني هنا سأحاول أن أخاطب الغرب و العرب في آن، حول مفهوم حرية الرأي والتعبير التي تتحصن بعض الجهات الغربية ورائها، الرئيس الأمريكي باراك اوباما انتقد الفيلم لكنه أشاد بحرية الرأي والتعبير في بلاده باعتبارها مكفولة في الدستور الأمريكي الذي هو من صنع البشر. إزدواجية المعايير و التلاعب بالألفاظ و إباحة الممنوع و منع المباح، وتجريم فعل ما على حساب حق آخر، أمور ليست بالجديدة في الخطاب الغربي بخصوص قضايا عديدة تهم العرب، و أبرزها القضية الفلسطينية التي تعتبر واحدة من أعدل القضايا في التاريخ المعاصر، لكن العدالة فيها غائبة بل الأصح مغيبة. بالعودة إلى الفيلم المسيء،أود أن الفت نظر الرئيس الأمريكي و وزيرة خارجيته، إلا أن حرية الرأي والتعبير لهما حدود تختلف من بلد لآخر، و أن هذه الحدود أو السقف المسموح به أمور متغيرة و ليست ثابتة تبعاً للظروف الأمنية داخل الدولة و خارجها بما يخدم مصالحها و مصالح الدول الأخرى و يعزز الأمن و الأمان و يغلق الطريق أمام تعزيز العنف وبث الكراهية في صفوف جماعة معينة. حرية الرأي والتعبير سيد أوباما، تتغير حدودها و تتحجم حينما يتعلق الأمر بإساءة لعرق معين او طائفة ما، فالمسافة بين حرية التعبير والإساءة لا تتعدى شعرة، قد تقلب الحق إلى باطل و العكس صحيح، فكفاكم تلاعباً بالمفاهيم، أنت تعلم وخبراء القانون في بلدك يعلمون تماماً بأن أول من نادى بحرية الرأي و التعبير كان الفليسوف جون ستيوارت ميل لكنه وضع لها حدوداً تحت بند إلحاق الضرر، وفسر هذا المفهوم بالعواقب التي تترتب على حرية الرأي والتعبير، بنظرية فلسفية بسيطة مفادها ( أن العواقب الجيدة لأكبر عدد من الناس هي الفيصل في تحديد اعتبار عمل أو فكرة معينة اخلاقياً أم لا).و من هذا المنطلق فقد تسبب هذا الفيلم و من يقف ورائه بإلحاق الضرر في مصالح بلادكم أولاً كما رأينا في الآونة الأخيرة و تسبب بحالة من الفوضى و الكراهية بين الشعوب، وامتعاضاً بين الاديان، ولم يقف عند هذا الحد فقد امتدت آثاره لتحصد ارواح أبرياء لا ذنب لهم في عمل مشين كهذا، كما رأينا في حادثة مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز و ثلاثة مسئولين امريكيين في بنغازي الليبية، و هي حادثة لم تتضح تفاصيلها و دوافعها حتى اللحظة، لكن معظم التقارير ربطتها بنشر الفيلم المسيء، ناهيك عن قتلى و جرحى في مواجهات في مصر و تونس و اليمن و دول أخرى، وأي ضرر أكبر من هذا الضرر الذي تسبب في زهق أرواح، وتشويه علاقات شعوب ببعضها، وتعميق الهوة بين الأديان، وإتاحة المجال للمتطرفين وأعداء السلام لتنفيذ مخططاتهم؟ آي ضرر آکبر من إدخال المنطقة في صراعات طائفية ودينية، بين ديانتين( الإسلام والمسيحية) وهما من أقدم وأجل الديانات الداعية إلى السلام و المحبة و التسامح بين الشعوب وليس إلى الاساءة إلى معتقدات الآخرين وجرح مشاعرهم وإهانة نبيهم. ومرة أخرى أذكر السيد اوباما بأن أغلبية اعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي وتحديداً في العام 1987 قد انتقدوا بشدة وعارضوا لوحة الفنان الأمريكي اندريس سيررانو والتي أطلق عليها البول على المسيح باعتبارها أساءة لرمز ديني، واعتبروها اساءة لشخص المسيح الذي نجله ونحترمه ونؤمن به ليس هذا فقط ، فهناك الكثير من الأعمال الفنية التي أساءت لرموز دينية وجرحت مشاعر المؤمنين مسلمين كانوا أم مسيحيين، كرواية آخر وسوسة للمسيح التي تحولت إلى فيلم سينمائي أثار الجدل وتسبب بأحداث شغب من قبل جماعات مسيحية اعتبرت الرواية اهانة لديانتهم. إذا حرية الرأي والتعبير يا سيدي شيء، والوقاحة شيء آخر، وهناك حدود لكل شيء في الحياة وإلا لتحولت حياتنا إلى غابة لا يحكمها إلى قانون الفوضى، وأذكر المتناسين بأن القانون الفرنسي على سبيل المثال يمنع بل يجرم الخطابات التي تحض على الكراهية بين الجماعات والديانات وحتى الرغبات الجنسية للأشخاص، فما بالك بإهانة وتحقير نبي يتبعه سبعة وعشرين بالمائة من سكان الكرة الارضية؟ .إن العواقب المترتبة على حرية الرأي والتعبير التي يتشدق بها المدافعون عن هذا الفيلم، تقتضي تقديم القائمين على الفيلم إلى القضاء الأمريكي و التحقيق معهم في دوافعهم و الجهات التي تقف ورائهم؟ و تحميلهم المسؤولية غير المباشرة عن احداث العنف و الفوضى في المنطقة؟ لاسيما في وقت حرج كهذا، تحتاج فيه شعوب المنطقة إلى الأمن والسلام، ووقف إراقة الدماء. هل يعزز هذا الفيلم الارهاب في المنطقة؟ ام يعزز قيم التسامح والتعاون والسلام؟ هل هناك فرق بين القنوات الفضائية التي تم حجبها بحجة الدعوة إلى الارهاب؟ وبين هذا الفيلم الذي مازال يعرض رغم المطالبات الكثيرة بحجبه؟ ما هو الهدف والرسالة التي أراد منتج الفيلم أن يوصلها للجمهور المتلقي؟ أسئلة كثيرة تقودنا إلى حقية واحدة وهي أن اعمال العنف أيا كانت دوافعها غير مبررة على الإطلاق، قتل الأبرياء ومهاجمة المؤسسات والممثليات، فعل لا يقبله دين سماوي، و الرد على مفتعلي هذه الفتنة يجب أن يتم بالحكمة و بأقل الخسائر، لتجنيب الشعوب مزيداً من التفرقة و العداء، التطرف والإرهاب لهما عدة وجوه، و الراقصون على دماء الأبرياء قد يلبسون عباءة وقد يحملون قلماً وقد يصنعون فيلماً، لكنهم في النهاية أعداء السلام، و جميعهم شركاء في الجريمة.