يطل الخريف مخادعا خداع الأطفال وكأننا لا نعرف من الروزنامة أنه صار على المشارف: نسمة أشد برودة من هنا، غيمة مسترقة من الشرق، أمهات يسارعن إلى شراء ما نسين من الكتب المدرسية والدفاتر، معلمون مكفهرون لا يدرون أي نوع من التلاميذ هذا العام، وأصحاب الدكاكين يوسعون في الداخل مكانا لصناديق الثمار. والخريف يتلطى في الطريق إلينا، مثل السذج يتلطى، كأننا لا ندرك من الغروب المبكر أن الصيف يخلي المكان، مسافرا كعادته، نحو أراض أكثر دفئا، لم يعد يعرف كيف يعيش خارج البساتين وبعيدا عن مشهد شجر التفاح. ولذلك عندما نقطف التفاح ونصفه في الصناديق، يبدأ هو بحزم شمس الرحيل. يلملم أشياءه عن رؤوس الشجر، ويترك للغيم أن يمر دون أن يرده براحة يده العريضة. يأتي الخريف ومعه كآبته. يقطف الفلاحون الرمان «عن أمه». اعتادوا تسمية كل ما هو حامل خير: «أما». التفاح على أمه. الزيتون على أمه. الصنوبر على أمه. الأشجار غير المثمرة لا يسمونها أما. الخريف الكئيب ينزع الثمار «عن أمها». وبعد قطاف الثمر يبدأ الورق بالاصفرار. ثم بالسقوط. وتنسى الناس عادة الذهاب إلى البساتين والحقول. وتضطرب فتوحل. وتحار النفوس في أمر الفصل الذي يحيط بها أرضا وسماء. لا هو وسيم كالصيف ولا غزير كالشتاء. إنه مجرد إعلان عن النهايات. لن نطلب الفيء الجميل بعد اليوم، بل الدفء. ولن يكون لنا ظل طويل على الأرض بل ظل محدود، ملاصق، وخائف هو أيضا من زخة مفاجئة أو هبة ريح تختبئ عند المفرق. هذا المفرق، كان في الصيف مهبط القمر ومربط الحالمين. يكتظ بالصبا والأمل والصور. لكن القمر يهاجر في الخريف ويتبعه ذوو الأحلام والآمال الطيبة. ويبقى المفرق مع نفسه، يستعيد حزينا ما تقوله عنه أغاني فيروز. أشياء جميلة غنتها له وللقمر ولجيران القمر ولتلال القمر. لا أغاني للخريف، إلا قصيدة جاك بريفير القديمة: الأوراق الميتة تُجمع برفش الحدائق. فصل تنتهي فيه الإجازات ومتعة الكسل، وتفترق الصداقات العارضة والعفوية، وتختم النزهات الجماعية في العشايا. يتضح أمره، الخريف، يوما بعد يوم، يصبح للريح صوت، وتتوقف الغيوم بدل أن تعبر، ويزداد المطر إلحاحا، ونعرف أنه الخريف لأن المطر لا يعود يحيي الصفرة على الشجر، فصل محرج بنفسه وكئيب، يدفع الصيف بعيدا ويوحل الطريق للشتاء.