مر أربعون عاما على غياب أم كلثوم. غابت بلا عقب في العائلة، وبلا خلف في الغناء. الأولى قدر، أما الثانية فإن أم كلثوم كانت حالة ومرحلة وعصرا وجمهورا يأتي إلى القاهرة من جميع البلاد، لكي يحضرها ويهتف لها ويردد خلفها أجمل الشعر وأحلى النغم.كان العالم يصغي إلى تلك الظاهرة ويحاول البحث عن أسرارها. المغني الأميركي بوب ديلان قال للمغنية الفرنسية اليونانية نانا مسكوري: إذا أردت أن تكوني بين سيدات الغناء، فاسمعي أم كلثوم. لم تكن طريق فاطمة السيد إبراهيم البلتاجي إلى أن تصبح أم كلثوم سهلة. لم تستسهل شيئا ولا أحدا. وحتى عامها الأخير، كانت تتصرف في اختيار الشعر والموسيقى كأنها تجرب ذلك للمرة الأولى. وأدركت أنها اعتلت أعلى ذُرى الغناء العربي، وأن البقاء فوقها يزداد صعوبة كلما ازدادت مراسا وعلوًّا. كانت تراجع القصيدة مثل تلميذة في الحفظ، وتستعيدها مع مؤلفها، وتناقش وتبدّل وتعدّل في توزيع الآلات وترصع النغم، تهبط به وتعلو، تملؤه من حنجرتها حتى يليق بها وحدها، ويصبح كل ما عداها مرددا في فرقة.لكن فاطمة السيد لم تكن فقط غناء وطربا وحضورا ومنديلا، وإنما كانت أيضا جزءا من الوجود الوطني والحضور القومي. أحب الناس من خلالها مصر، وتعززت فيهم مشاعر العروبة والأمل. والجيش المصري الذي يُقتل أبناؤه في سيناء اليوم، كانت أم كلثوم تغني في الأماكن لكي تجمع له التبرعات. وكانت تغني لكي تبعث في قلوب جنوده الحماس وحب الأرض، صحراء أو نيلا أو تُرعا عصيبة وخضراء معا.مع ذكرها، تُذكر أسماء كبار السياسيين وكبار الصحافيين وكبار الشعراء وكبار الموسيقيين. وقد يرى بعضنا أن محمد القصبجي الذي اكتشفها، كان سيد التجديد في الغناء المصري. وأنا من الذين يرون فيه أمير اللحن العذب في كل ما أبدع، لها ولغيرها. وكل من ارتبط اسمه بغنائها حلّت عليه الشهرة الكبرى، كما حدث مع بليغ حمدي. غير أن ألحان رياض السنباطي وشعر أحمد رامي مثل تاجين فريدين في مسيرتها المذهلة.بعد أربعين عاما، يظل سحر أم كلثوم طاغيا ذلك الطغيان الجميل على النفوس والأفئدة. لم تدخل حياتنا وتاريخنا كمغنية، بل كأميرة من أميرات الشرق، وبانية من بناة وهجه وعبيره.