في ذكرى غياب أم كلثوم، أحب أن أنقل، للذين لم يُجاروا عصرها، ليس رأي العرب الذين سمّوها ”كوكب الشرق” وإنما شيئا لا يصدق لولا أن راويه هو مغرد الصحافة محمد التابعي. يقول التابعي إنه دعا الملحق الصحافي البريطاني في باريس، مستر دونالد، إلى الغداء، ”وجرَّنا الحديث إلى الغناء في مصر وإلى المعجزة التي اسمها أم كلثوم، وإلى الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب”. قال دونالد: عندما لاح شبح الحرب في أوروبا عام 1939 لاحظ رجال المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط أن عملاء دول المحور راحوا يجمعون من أسواق القاهرة وتل أبيب ويافا والقدس وبيروت ودمشق وحلب، جميع الاسطوانات العربية، وخصوصا اسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب. وهنا أدركت أقلام المخابرات أن دول المحور تستعد لحرب الدعاية، ومن ثم نشطوا هم أيضا لشراء تلك الاسطوانات، وكان سباقا حارا بين الفريقين. وسبب ذلك أن إذاعة لندن أو برلين أو إيطاليا سوف تضمن أن يصغي ملايين العرب إلى نشرات الأخبار إذا هي وضعت أغاني أم كلثوم قبل، أو بعد، النشرة. وقال الملحق البريطاني إنه مع تطور الحرب عام 1942 والخوف من احتمال فوز دول المحور، قررت وزارة الاستعلامات البريطانية إخراج أم كلثوم من مصر بالرضا أو بالإكراه خوف أن تستغلها الدعاية الألمانية. ولقد كان يكفي أن يذيع الراديو - الألماني المصري - أن أم كلثوم، أو عبد الوهاب، سوف يغني هذا المساء، لكي ينصت العالم العربي إلى إذاعة محطة القاهرة التي يسيطر عليها الألمان. ذلك كان رأي الحلفاء ودول المحور في أم كلثوم. فلما وصل إلى السلطة في ليبيا الملازم معمر القذافي قرر منع أغانيها لأنها ”طويلة”. وقامت حملات كثيرة تقول إنها ”تخدِّر” الشعب العربي الذي يتجمع حول المذياع كل أول خميس من كل شهر، لكي يصغي إلى حفلاتها، فتفرغ شوارع المدن وتمتلئ مقاهي الأرياف؛ حيث ليس في القرية أكثر من مذياع واحد. وفيما كان هذا بعض العرب، كان كبار المغنين في الغرب يغبِّطنا على ظاهرة اسمها أم كلثوم. وكتبت المغنية الفرنسية اليونانية نانا موسكوري في مذكراتها، أنها سألت المغني الأميركي بوب ديلان ماذا تستطيع أن تفعل لكي تتقدم أكثر، فقال لها، أصغي إلى مطربة مصرية تدعى أم كلثوم. لم تكن ظاهرة غنائية فقط. كانت ظاهرة قومية بلا سابقة أو لاحقة. نسي العالم أنها مطربة رائعة وأعطوها مكانة ”الست”. وكان العابرون يشيرون إلى منزلها كما يشار إلى الأماكن التاريخية. ومع غيابها فقدت القصيدة العربية منشدتها الأولى. وطالما طوَّعت حنجرتها الأوزان الصعبة كما زغردت بالأغنية العامية. وبعض كبار الشعراء رسخوا في الذاكرة على أنهم شعراؤها. وكذلك بعض كبار الملحنين الذين لم يُعرفوا إلا بغنائها. لم تكن أم كلثوم ظاهرة أو معجزة. كانت مرحلة عبقرية من الشعر والموسيقى والغناء. وبعد أربعين عاما تظل كما كانت عام 1939، ظاهرة لا قبل ولا بعد ولا أثناء ”تستتها” على مشاعر العرب.