كانت تتصرف كأن الغناء جزء من وظائف جسدها الحيوية و تعيش لتغني هي الذكرى الأولى لغياب وردة الغناء العربي، وردة التي ورغم الغياب ستظل تنبض حياة ونغما وأغنيات، هي دروب الفن التي خلدتها وتخلدها حديقة للفن والجمال والحب والاختلاف.. وردة التي غادرت في 17 مايو 2012، وفي ربيع غائم، خجل من غيابها فاغرورق بالغيوم أكثر.. كراس الثقافة في عدده لهذا الأسبوع لم يفوت فرصة الاحتفاء بالوردة الكبيرة عبر هذه الوقفة التكريمية تخليدا لذكراها، لروحها ولفنها ولمسيرتها الوارفة والمشعة كما حياة استلقت على حرير الأغنيات وامتدت إلى أعلى البهاء. هذه شهادات الحب من بعض الكُتاب والكاتبات من مختلف الدول العربية، شهادات في حق الراحلة الكبيرة وردة الجزائرية في ذكرى غيابها الأولى. إستطلاع/ نوّارة لحرش عزت القمحاوي/ روائي مصري أحن إلى مصرها أب جزائري وأم لبنانية ومعلم موسيقى تونسي وحياة مصرية. هذه ليست مصادفات بل مناخ عربي اختصرته وردة في اسمها. ليس هناك أي تناقض في الهوية، وليست هناك شروخ، بل الغنى الرحب الذي تمتعت به هذه الفنانة التي حطت في مصر عندما كانت تتمتع بالرحابة ذاتها وفتحت لها الذراعين اللتين استقبلت بهما العشرات من مبدعي الدول العربية الأخرى على مدى قرنين، قبل أن يتحكم فيها ضيق الأفق السياسي مع السادات ثم يبلغ مداه في سنوات مبارك البليدة. عندما وصلت إلى مصر كان نصف الأصوات المصرية المميزة من بلدان عربية أخرى مثل صباح، وفايزة أحمد وعليا التونسية، وربما نجاة أيضًا إذا عدنا بها إلى أصلها السوري، إلى جوار كوكب الشرق أم كلثوم ونجاة الصغيرة، وشادية. لم يكن هناك سوى الاجتهاد والموهبة، واستطاعت وردة أن تجد مكانها على القمة منذ اللحظة الأولى، وقد وصلت إلى مصر خصيصًا من أجل فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" الذي كان مباراة فنية بينها وبين عادل مأمون ولم تزل أغنياتها فيه أيقونات فنية مثل "يا نخلتين في العلالي". تعاونت مع كبار الملحنين المخضرمين من أمثال رياض السنباطي وزكريا أحمد، ثم كان اللقاء الفني والشخصي مع العبقري بليغ حمدي تأكيدًا لقدر مطربة تغني ببساطة جريان الماء. احتفظت وردة بمكانها على القمة نحو نصف قرن، وكانت الوحيدة تقريبًا من نجمات الستينيات التي نجت من هجمة الخفة التي أجبرت على التقاعد مجايلتها نجاة الصغيرة وصوتًا عبقريًا تاليًا هو عفاف راضي. ربما كان لمرونة هوياتها المتعددة وذكائها دخل في هذا، وربما هو الإصرار على الحياة، فقد كانت تتصرف كأن الغناء جزء من وظائف جسدها الحيوية، فأن تعيش يعني أن تغني. ولهذا استمرت وردة ونافست موجة مطربات الفيديو كليب، سايرت الموجة وسبحت معها بأقل قدر ممكن من الخفة. وبالإصرار نفسه أجبرت الكبد الجديد على التوافق مع جسمها وأثبتت أن الجراحة الكبرى لم تنل منها، لكن كان لابد مما ليس منه بد. ذهبت وتركت لي ولكثير من المصريين الحنين إلى صوتها وإلى مصرها التي كانت والتي نصر على أن تعود. فاطمة ابريهوم/ قاصة جزائرية إنها أبعد من مطربة فهي تشهد على ثقافة مرحلة "أثنا.. أثنا إليك يا جزائرنا الحبية أثنا"،، لن أصدق بعد سنوات طويلة أن هذا المقطع الذي رددته صغيرة وأذني إلى الراديو في خشوع كما تروي أمي وأنا لا أتجاوز الخامسة هو لمطربة كبيرة هي وردة التي راح يحركني الفضول لسر "الجزائرية" في اسمها، لأتعلق بعالم هلامي من الأحلام، والمباهج، والشجن وأنا أجمع أغانيها، وأنتظر-مراهقة- حفلاتها مهرجانا من المتعة والإنصات، وأبحث عن كلماتها فتحرضني على الحياة والحب والفرح فأتعلم التسامح فلا ألوم من أحب، وأغفر خطاياهم لأطير مع الحب في فضاء الإمتلاء الذي صدحت به تلك السيدة الأنيقة صاحبة الإبتسامة الطفولية، وهي تقاسم جمهورها فرحته، وتحول في تعرجات صوتها السهر شدو حساسين، وتجعل من اللقيا معراجا للتطهر من مشاعر إنسانية لتتسامى المشاعر مع ألحانها إلى نفحات نورانية تدين بالمحبة وتبشر بلطائفها لأكثر من ليلة قد تطول عمرا.. اليوم كبيرة لا أشك في أن "وردة الجزائرية" تجربة طبعت وجداني بجمال حضورها، ونبل أخلاقها، وصفاء صوتها المليئ بالحياة والقوة لأنها أبعد من مطربة فهي تشهد على ثقافة مرحلة، وتحفظ ذاكرة ذوق كم نَحِن إلى معانيه اليوم وقد تحول الغناء إلى مجرد سلعة بخسة تتساوى فيها الأصوات مادام مقياس التميز فيه هو القدرة على القفز. أحمد الواصل/ كاتب وناقد سعودي تاريخ الوجدان وردة تمثل وردة حالة خاصة في تاريخ الغناء العربي في المنتصف الثاني من القرن العشرين. إنها تمثل حالة عربية بامتياز. انطلقت حيث ولدت في باريس حاملة في صوتها أكثر من قارة، موطن والدتها لبنان ووالدها الجزائر، بين مجموعة من عرب شمال أفريقيا من تونسوالجزائر. اعتنى بها الفنان التونسي الصادق ثريا وهو الذي أشرف على تدريبها وتمرينها وهي تلك الحنجرة التي تمرست في تقمص أكثر من حنجرة تبحث عن هويتها حيث جذبتها الجينات الأمومية نحو تقمص صوت أسمهان ونور الهدى وقبلهما صوت والدتها الجبلي. تقاسم معها الفنان محمد الجموسي (1910-1980) اللعبة الغنائية حيث كان يعبر عن صورة الحداثة التي وضع أسسها كل من محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وكرسها كل من فريد الأطرش ومنير مراد ومحمد فوزي. وفي ذات الوقت كان يستلهم الموروث الشامي والتونسي والأوروبي في أغنيات اختلطت لهجاتها التونسية واللبنانية. وكبرت هموم الوردة في الغربة والحنين إلى أكثر من وطن لم تزرهما. وحين هربت إلى بيروت 1957، وطن الأم، ساندت الثورة الجزائرية، وطن الأب، ومجدت جميلة بوحيرد في أغنية "كلنا جميلة" كتبها لبنانيان ميشال طعمة وعفيف رضوان. وفي قصائد أخرى كتبها صالح خرفي ولحنها رياض السنباطي من إذاعة القاهرة. هكذا وردة أريج ينتشر حمل العطور كلها من شامها ومصرها وتونسها وجزائرها. لم تكد تمتد خطوتها عتبة القاهرة الساحرة بالضوء الفاخرة بالنغم. حتى ارتحلت إلى وطن الشهداء وتصمت حتى اكتمل عقد بهجة باندلاع ثورة أسست ذاكرتها الغنائية بحنجرتها في وجدان الجزائريين. عادت الثورة لتثور عليها وتعود إلى القاهرة حيث مخزن الألحان ينتظرها بالحب والنجاح والمجد، وترتسم خطى الشغف والوله. زرعت بصوتها ولحن بليغ حمدي الكثير من بذور الولع في زوايا عربية. احتفلت العواصم بالحنجرة بألحان الوطن والنصر، والحب والفرح، والوجع والابتسام.. تخطت وردة تجربة بليغ نحو تنويعات بين سيد مكاوي ومحمد عبد الوهاب. في كل مرحلة تسقط أحلام ويعلو الطموح. لم تقف وردة عند محطة وكررتها كانت تتخطى سكك الحياة تلو بعضها. استطاعت أن تتخطى الأفق الضيق الذي كانت تدور عليه الأغنية التي مرت بمخاض طويل حتى تخلصت من أعباء التقاليد بين القوالب المتوارثة والأشكال المنقولة، وتكريس لحظة القطيعة مع صورة "الحريم الغنائي" نحو "النسوية الغنائية" حيث تجرأت أغانيها على البوح المتمكن عن الحب وشؤونه التي يعتل بها "أولاد الحلال" وصولاً إلى تحدي المستحيل "عايزة معجزة". وتمكنت من توسعة "المكون الغنائي العروبي المتوسطي" الذي أسسه محمد الجموسي وأكمله بليغ حمدي ثم أخذ الشعلة صلاح الشرنوبي وأمير عبد المجيد. وتصفت كل مصادرها الغنائية وأعيد تشكيلها في بوتقة حنجرة تمكنت من هضم الموروث الشامي والجزائري والمصري والحجازي ليتحول نحو "المكون العروبي المتوسطي" الذي يحمل بصمتها. وترسخت الصورة الغنائية في عصر الفرجة الوقوف المسرحي حضوراً وغناءً نحو الفرجة السينمائية والتلفزيونية في أكثر من فيلم ومسلسل خطت بهما أكثر من موضوع وعصر. الصوت لا يخذل حنجرته ولا الظل يخون ضوءه. مضت وردة تعزز من هذا الأريج في كل حضور. هذا الحضور الذي برغم طبقة عميقة من الحنين والغربة هي غربة الإنسان في القرن العشرين تؤكد عمق الفرح بيدين تضيئان عتمة الوجدان.. ليانة بدر/ روائية ومخرجة سينمائية فلسطينية أقوى الأصوات العربية وأشدها حناناً لم يعد هنالك صوت مثل صوتها كي يداوي وحشتنا العربية في أوقات الشدة كي يصدح عالياً: "يا نخلتين في العلالي يا بلح، هم داواي..". وردة، أقوى الأصوات العربية وأشدها حناناً اقتطفت عوالم من الفرح والعتاب والمناغاة والمناجاة من جعبتها الحافلة، ثم استدارت صوب الأبد هناك، واستراحت في الجانب الآخر كمن أعطى كل ما لديه من حنان، ومضى. وردة، كم كان صوتها كالجزائر الحرة التي قاتلت إستعمارات مديدة لكي تتحرر، وما زالت حتى اليوم. صوت الجزائر العذب لن يمضي. سوف تحمله أحلامنا وتظل تردده مسجلاتنا، لكي نظل نردد على مر الزمن "بتونس بيك". رافضين الفرقة والعبودية والانقسام. ضد التعصب والتزمت الحاقد. مع الحياة والحب والنخيل والأمل. تلك كانت وردة الجزائرية. وذاك ما بشر به صوتها الذي لم يختف من حياتنا ولن يخفت . محمد معتصم/ كاتب وناقد مغربي مقياس للتحول الذي عرفته الأغنية العربية الموسيقى، الغناء، الطرب فنون وطرائق في التعبير عن الأحاسيس والأفكار بالكلمة الشاعرية المعبرة الهادفة التي تحرك بواطن الإنسان وتؤثر فيه بالإيجاب أو بالسلب أي أنها تدخله مضايق الحزن والشجن أو رحابة الفرح والسعادة الروحية. وهي أيضا فنون تعبر عن موقف من الحياة ومن الذات ومن بعض مظاهر الحياة ومشاهدها الطارئة. عُرٍفَ الغناء العربي بالطرب منذ ظهوره أو منذ تدوينه في كتب خاصة ومن أهمها كتاب "الأغاني" للأصفهاني الذي دون أخبار الشعراء ومعهم الأشعار المغناة، حتى المرحلة المعاصرة التي أصبح فيها الغناء مجرد إيقاع وحركة وحضور طاغ للمؤدي على خشبة المسرح بما يناسب الذوق المعاصر وشروط وجود الإنسان اليوم. المرحومة وردة الجزائرية مطربة مميزة بصفات كثيرة ومنها، أنها مقياس للتحول الذي عرفته الأغنية العربية فقد رافقت تطورها بحضورها في الساحة الغنائية منذ فترة تواجد "عمالقة" الأغنية العربية الذين طوروها ومنحوها خصوصيتها المحلية والإقليمية والقومية في آن واحد كأم كلثوم بمطولاتها العاطفية والدينية والوطنية والقومية وكذلك محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونجاح سلام،،، ونجاة الصغيرة واللائحة طويلة جدا، ورافقت التحديث الذي أدخله ملحنون كبار ومبدعون عليها محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي... كما أنها أدت في أواخر أيامها على ظهر البسيطة أغاني بإيقاعات محدثة، لكن كانت دائما لا تقبل الانحدار عن سلم الذوق الرفيع والغناء الهادف والكلمات البليغة. لقد رافقتني أغاني وردة الجزائرية في كل مراحل تطوري ونمائي العاطفي والفكري، وكانت أغانيها سندا لي في لحظات الضعف الإنساني الذي تعبره الذات في مسار تطورها وتقدمها نحو النضج والتميز والانفصال عن وجوداتها السابقة، كثيرة هي المقالات والدراسات التي كتبتها وأنا أستمع إلى وردة الجزائرية، كما أفعل الآن وأنا أكتب هذه الشهادة الناقصة، والتي لا ترقى إلى مكانة المطربة في نفسي وفكري، "أكذب عليك" عليكم إذا أنا تنكرت للدور الذي لعبته الأغنية العربية الهادفة والطروب في تكويني وفي كتاباتي ولا أشك في أن جيلي لا يختلف عني. اليوم عندما أستمع إلى كثير من الأغاني أصاب بحالة من الحزن والغم فأتحول إلى الأغنية التي تربى عليها ذوقي ومن أهم "أعلامها" المرحومة وردة الجزائرية حضورا وصوتا وأداء واختيارا دقيقا وهادفا للكلمات. غادة علي كلش/ كاتبة وإعلامية لبنانية رمز فني شاهق تنتمي المطربة الكبيرة وردة الجزائرية، إلى مسامع الجماهير العربية، وإلى ذائقتهم الطربية الأصيلة. فهي رمز فني شاهق، من رموز فنّ الغناء العربي. وهي إلى ذلك، صاحبة الحنجرة الماسية. ولها أغنيات لا تُنسى، لطالما رافقتنا في مراحل طويلة من مراحل أيامنا وأعوامنا، طابعةً بصمة متميزة، تقارع بصمات كبار المطربين العرب، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وفايزة أحمد، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش. ونجاح سلام، وسعاد محمد. وسواهم من ذاك العصر الذهبي. ولوردة في ذاكرة اللبنانيين أحلى الأوقات والذكريات، وأصدق المواقف والأمنيات. فقد عاشوا معها "العيون السود" و"لولا الملامة" و"الوداع" و"في يوم وليلة" و"الأيام" و"يا نخلتين بالعلالي". عاشوا معها كل المراحل وأحبوها، لكن حّبهم لها ازداد أكثر، عندما غنتّ لجراحاتهم أيام الحرب، وغنّت للبنان صادحةً: "لبنان يا جريح الله يخليك، دي سحابة ومرّت فوق أراضيك". في عام رحيلها الأول، نؤكد أننا لا ننساها، ولا حتى ذاكرتنا تنسى أغنياتها، وفرادة صوتها العربي، الذي يستلّ من رياحين الجزائر وتراثها قوة هدّارة الجمال، ورقةّ مرهفة الحنوّ. وردة، في الصوت، وفي الضمير. نصيرة محمدي/ شاعرة جزائرية المرأة النورانية التي منحت الجزائر قيمة وردة المرأة النورانية شكلت سحرا خاصا في وجدان وذاكرة العرب جمالا وإبداعا وإنسانية عالية. وردة الجزائرية التي منحت الجزائر قيمة أخرى من روحها وفنها الراقي وشخصيتها القوية التي واجهت بها العالم بدءً من تحررها من الأشكال التقليدية والأدوار المنمطة للمرأة وإخلاصها لفنها وذاتها التي أرادت لهذا الصوت المبهر أن يخترق الكون ويعلو على جميع الكائنات مترنما متدفقا فياضا رقراقا قاصدا أقاصينا السرية بالبهجة والحب والحلم. ومرورا بالمغامرة التي تسكن الفنان انطلقت وردة صوب الفن ومن القاهرة تجذرت كفنانة يحسب لها ألف حساب وبارتباطها الثاني من العبقري بليغ حمدي توهجت بالغناء وأضفت على الطرب العربي بعدا آخر جعل عمالقة الفن يتوجونها أميرة للطرب العربي. وردة التي امتزج دمها الجزائري بالدم اللبناني وكانت خلاصة جغرافيتين متميزتين وثقافتين مفتوحتين على العالم انصهرتا معا في أرض الجمال والفن باريس لتشكل وردة القصيدة والأغنية والموسيقى الخالدة في قلوب الجميع. وردة الأناقة والكرم والعطاء اللامحدود ملأت مخيلتي بأبهى الذكريات طفلة صغيرة تنصت إلى المذياع مع أمها فاطمة التي تلاحق الأخبار والغناء والبرامج الإذاعية بشغف. وردة التي سعيتُ لتسجيل حوار معها وحال مرضها دون ذلك في تلك المرحلة العصيبة من حياتها. وردة أحبت الحياة مثلما أحبت فنها.. قاومت وانتصرت على المرض وشدائد الحياة.. كانت الأقوى والأجمل دائما.. رحلت وهي جميلة ومشعة وستظل كذلك في أرواحنا. زهرة ديك/ روائية جزائرية قتلوها بقولهم "اعتزلي" كيف لهذا الصوت أن يموت؟ كيف لهذا الوجه أن يغيب، كيف لتلك الطلة لذاك الوهج لذاك الحضور الفاتن الطاغي أن يغادر الركح والجمهور والحياة إلى غير رجعة، رغم مرور سنة على الغياب، نكاد لا نصدق. بل فعلا لا نصدق، ثمة أناس لا نستوعب خبر موتهم، نرفض أن ينتموا إلى البشر الفانين حتما. يباغتنا خبر رحيلهم كمزحة مرة، كخطأ في العنوان، وفنانتنا وردة من هكذا فئة، فئة العصيين عن لباس الموت، الخارجين عن قانون الفناء، لا أدري كيف أبدأ الحديث عن وردة الجزائرية، أحب أن أتناول في الأول جانب المرأة والأنثى فيها، وكوني امرأة والمرأة قد تبهر وتعشق شخصية نسائية ما كما الرجل أقر أني لطالما غبطتها على ذاك التشبث والإصرار على التألق والجمال والفرح والنجاح والتفوق. وأكثر من ذلك الذهاب إلى أبعد حدود لتحقيق حلمها. فلا زواجها من عسكري محافظ أطفأ حبها للفن ولا الأزمات التي استهدفتها طوال مشوارها الفني نالت من رغبتها في أن تحقق ما تريد. شيء واحد أحدسه بغريزة وإحساس الأنثى كان ربما السبب في احتجاج الفنانة وردة الجزائرية حد انسحابها من مسرح الحياة يتمثل في ارتفاع بعض الأصوات وبعض الأقلام مطالبة باعتزالها. يا له من عنف ويا لها من قسوة. المرأة تحيى بالفن وللفن. تتنفس الفن. تعيش للغناء. نذرت عمرها ووهبت وجودها للفن. وها ثمة من يسدد سهامه فيصيب منها مقتلا. نعم ذبحتها لا إنسانية تلك الأصوات وآخرهم الفنان فضل شاكر، وقتلتها تلك الأقلام الصحفية الجارحة المسمومة التي دعتها للاعتزال والاكتفاء بما حققته من نجاحات بحجة وهن صحتها وصوتها. كأنهم لا يعرفون معنى أن يتخلى فنان أو فنانة في قامة وردة الجزائرية عن فنه، عن الأوكسجين الذي يتنفس ويعيش به. لا أدري لماذا لم يطالبوا مثلا المطربة اللبنانية صباح بالاعتزال أو وديع الصافي مع احترامنا لهاته القامات الغنائية رغم تقدمها في السن، لماذا لم يطالبوا آخرين سابقا. لا أدري كيف يجب أن نسمي تلك المطالبة فلا كلمة وقاحة ولا كلمة مظلمة ولا كلمة أخرى تؤدي المعنى المطلوب. في اعتقادي هي كلمة لا غيرها "جريمة" نعم قتلوها بقولهم اعتزلي "واعتزلي" في قاموس أي فنان أو فنانة مرهفة نذرت حياتها للفن يعني "موتي". لكن وردة الجزائرية رمز النضال والوطنية والفن الراقي الأصيل لم تمت، بل بالعكس، غياب جسدها سيذكي أكثر حضورها المشع الملهم للذاكرة الفنية الغنائية العربية.