يمكن قراءة التصريحات التي صدرت عن وزارة الخارجية الأمريكية عشية سفر ريكس تيلرسون، وزير الخارجية إلى أوروبا على أنها محاولة لوضع أجندة اللقاء المرتقب اليوم بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة الدول العشرين المنعقدة في مدينة هامبورغ الألمانية. وعبرت الخارجية عن استعداد الولاياتالمتحدة للتعاون مع روسيا في إنشاء مناطق تجميد النزاع في سوريا. وتأتي التصريحات في وقت أشار فيه تيلرسون إلى أن العلاقة مع روسيا «في أدنى مستوياتها». ويعتبر لقاء ترامب – بوتين الأول منذ وصول الرئيس الأمريكي إلى البيت الأبيض، خاصة أن اتهامات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية ظلت تلاحقه وأطاحت بعدد من مستشاريه وهي رهن تحقيقات في الكونغرس ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي). ومن هنا فالترتيبات الأمريكية – الروسية في سوريا مهمة لأن القوات المدعومة من الطرفين وصلت حالات من الصدام بشكل وضع القوتين أمام احتمالات حرب. وفي الوقت الذي أعلن فيه الروس عن قطع الاتصالات مع الأمريكيين في مجال تحديد مناطق خالية من النزاع إلا أن الأمريكيين تحدثوا عن تقدم في التفاهمات ورسم خطوط بينهما تمنع حصول مواجهات محتومة. ونبع الموقف الروسي من سلسلة الصدامات التي أدت لإسقاط طائرة روسية الصنع تابعة للنظام قرب الرقة ومن استهداف ميليشيات مدعومة من النظام كانت تقترب من مواقع لمعارضة تدربها وتسلحها القوات الأمريكية الخاصة في التنف جنوبيسوريا. وقال تيلرسون إن القادة العسكريين من البلدين تواصلوا «للتأكد من عدم وقوع حوادث بين بلدينا على المسرح السوري». واعتبر تيلرسون التعاون في مجال المناطق الخالية من النزاع «دليلاً على قدرة بلدينا على التعاون أكثر». لا شأن لنا بالأسد وكان تيلرسون قد أخبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في حديث خاص جرى بينهما في مقر الخارجية الأسبوع الماضي أن الولاياتالمتحدة ليست مهتمة بمصير بشار الأسد. وقال حسبما نقلت «فورين بوليسي» إن استراتيجية إدارة ترامب تركز فقط على هزيمة تنظيم «الدولة» (داعش). وتعكس تصريحات تيلرسون موقفاً جديداً ورؤية عن تخبط السياسة الأمريكية خاصة أن وزير الخارجية نفسه دعا قبل ثلاثة أشهر لتنحي الأسد عن السلطة، كما يعبر عن اعتراف بأن الحكومة السورية، المدعومة من روسياوإيران، هي المنتصر المحتمل في الحرب الأهلية السورية. وهي في حد ذاتها انحراف عن عملية السلام التي رعتها الأممالمتحدة عام 2012 ودعمتها الولاياتالمتحدةوروسيا وغيرها من القوى، ودعت إلى حكومة انتقالية تشارك فيها المعارضة السياسية. وبحسب الإدارة السابقة لباراك أوباما والدول الغربية، فإن ميثاق جنيف يعني في النهاية رحيلاً للأسد، رغم أن إدارة أوباما في الأيام الأخيرة من ولايتها خففت من مطلب رحيل الأسد. وأشارت المجلة إلى أن تيلرسون كلفه الرئيس ترامب بإصلاح العلاقات مع موسكو، لافتاً إلى أنه حذر الكونغرس من فرض عقوبات جديدة على روسيا بسبب دورها المزعوم في الانتخابات الأمريكية العام الماضي وأنها قد تؤثر على التعاون بين البلدين في سوريا. ويمكن النظر لتصريحات تيلرسون للأمين العام للأمم المتحدة على أنها عودة إلى موقفه الأول عندما تولى منصب وزير الخارجية حيث قال إن واشنطن ليست مهتمة باستخدام قوتها لإجبار الأسد على الرحيل. وقال في آذار (مارس) إن مصير الأسد «يقرره الشعب السوري». ورغم أنه عاد وغير موقفه بعد هجمات خان شيخون بالسلاح الكيماوي في نيسان (إبريل) إلا أنه كان واضحاً في حديثه مع غوتيريش، وأن «ما سيحدث للأسد هو موضوع روسي، ولا علاقة للحكومة الأمريكية به». وأكد أن الولاياتالمتحدة «سترد على التهديد الإرهابي»، لكنها لن تهتم «ببقاء الأسد أو رحيله». جبهة الرقة وبحسب ما نقلت صحيفة «واشنطن بوست» فقد ركز تيلرسون على موضوع المعركة الجارية في الرقة حيث قال «مع اقتراب تحرير الرقة فقد تضرر تنظيم الدولة بشكل كبير وربما كان على حافة هزيمة كبيرة وعليه فمن الجيد لو ركزت كل الأطراف على هذا الهدف. ومن أجل تحقيقه فيجب على المجتمع الدولي بما فيه روسيا إزالة العقبات التي تمنع من هزيمة تنظيم الدولة ومنعه من البروز من جديد من رماد الخلافة الفاشلة والمزيفة». وتواجه الرقة حصاراً وهجوماً منسقاً تدعم فيه الطائرات الأمريكية ما يطلق عليها قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب الكردية. وفي هذا السياق كتب ديفيد إغناطيوس الذي يزور منطقة شرق سوريا ويتغنى بما ينجزه الأمريكيون وحلفاؤهم الأكراد. ففي مقال ثالث له خلال أسبوع كتب قائلاً: «عندما يلتقي دونالد ترامب مع فلاديمير بوتين يوم الجمعة في هامبورغ على الرئيسين أن يستحضرا في ذهنيهما الشارة التي يرتديها مقاتلو سوريا الديمقراطية والذين يعدون الحليف الأمريكي الرئيس هنا. وتظهر الشارة خريطة لسوريا يقطعها خط أزرق لنهر الفرات». ويعلم النهر المنطقة غير الرسمية التي يتجمد فيها النزاع بين القوات التي يدعمها الروس وتلك الكردية التي يدعمها الأمريكيون. ويشير الكاتب هنا إلى الاتفاق الذي تم بين القوتين الأسبوع الماضي ورسم فيه منطقة تمتد على قوس من 80 ميلاً قريباً من مدينة الرقة وقريباً من بحيرة الأسد إلى قرية الكرامة على الفرات. ويقول إغناطيوس إن اتفاق الروس والأمريكيين على إنشاء منطقة عازلة أمر يعد بالكثير. ويسمح هذا للأمريكيين وحلفائهم بإخراج تنظيم «الدولة» من الرقة ولقوات الأسد المدعومة من إيرانوروسيا بالسيطرة على مدينة دير الزور في جنوب – شرقي البلاد. ويعتقد المحلل المعروف بأهمية مناقشة ترامب – بوتين هذا الاتفاق الأخير وإن كان نموذجاً لبقية سوريا. ويجب التركيز في هذه المرحلة على هزيمة تنظيم «الدولة» وتحقيق الاستقرار لسوريا المحطمة والمقسمة وأخيراً مناقشة المستقبل السياسي. حل عملي؟ ولكن هل يمكننا اعتباره حلاً عملياً أم لا؟ يقول الكاتب إن التعاون الأمريكي- الروسي في سوريا يواجه الكثير من المعوقات، فعلاوة على شرعنته الغزو الروسي لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم بالإكراه بالإضافة لتدخله في سوريا، فإن مجرد ذكر اسم بوتين في الكونغرس والإعلام يثير الخلافات والسموم. كما أن ترامب يواجه انتقادات حتى عندما فكر بتقديم تنازلات. وبعيداً عن هذه السلبيات فهناك إيجابية واحدة للعمل مع بوتين وهي أن التعاون معه في سوريا قد يؤدي إلى تخفيف مستويات العنف في سوريا وبناء أسس لحكم هادئ ولا مركزي يساعد الأمة على التعافي من هذه الحرب التراجيدية التي تعيشها. وتحدث الكاتب هنا عن تفضيل تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس استكشاف سبل التعاون مع روسيا. وهذا الموقف يتناقض مع الموقف الصقوري داخل مجلس الأمن القومي والكونغرس الذي يرى أن التعامل مع موسكو يعني تقوية حلفائها أي النظام السوري وإيران ويمنح الكرملين الضوء الأخضر لممارسة دور في مستقبل سوريا. مواجهة إيران ويشير إغناطيوس إلى موقف أكثر شدة في داخل الإدارة يدعو لعمليات عسكرية ضد إيران وحلفائها من الميليشيات الشيعية في العراقوسوريا لمنع الممر الإيراني من طهران إلى بيروت. ويعلق الكاتب بأن هذا الموقف المتشدد يتجاهل أن الممر أصبح حقيقة. وبالضرورة لن يمنع الولاياتالمتحدة أو إسرائيل من ضرب شحنات الأسلحة الخطيرة. وهناك محذور ثان وهو أن استهداف الميليشيات الشيعية قد يجر الولاياتالمتحدة إلى حرب طويلة في الشرق الأوسط. ويشير الكاتب إلى أن عملية التعاون مع الروس في سوريا معقدة وتمر عبر مستويات ثلاثة وهي التي أدت لإنشاء محور الفرات. ويتحدث عن اتصالات يومية عبر الخط الساخن بين قاعدة حميميم في اللاذقية والعديد في قطر. وهناك لقاءات على مستوى الجنرالات من نجمة واحدة واتصالات بين مقر قيادة التحالف في بغداد والقيادة الروسية في طرطوس. والمستوى الثالث هو تحويل القضايا الكبرى لقائد قوات التحالف الجنرال ستيفن تاونسند ونظيره الروسي الجنرال سيرغي سيروفكين. ورغم تهديد الروس في حزيران (يونيو) بوقف التعاون في مجال تخفيف النزاع إلا أنهم عادوا وبهدوء للحديث في نهاية الشهر. ويضيف أن تعاونا مماثلا بين الروس والأمريكيين جار في جنوب- غرب سوريا وبدعم من إسرائيل والأردن. ويعتقد إغناطيوس أن التعامل مع الروس ربما لم يكن مرضيا إلا أن تجنبهم يعني استمرار لحرب بشكل يؤثر على كل الأطراف. هل انتصر؟ ويرى ديفيد غاردنر في صحيفة «فايننشال تايمز» أن لقاء ترامب- بوتين على هامش قمة هامبورغ لن يستطيع تجنب سوريا التي يتنافس فيها البلدان بطريقة وقحة ويواجهان إمكانية الحرب، مع أنه يستبعد إمكانيتها في الوقت الحالي. فقد اختار بوتين سوريا والشرق الأوسط كمنطقة غير مستقرة لكي يعلن عودة روسيا كقوة عظمى وهو مستعد لأن يعمل ما يمكنه عمله في الطريق إلى المسرح الدولي. وفي الوقت الذي لم يعلن ترامب عن أجندة واضحة، يبدو أنه سمح لجنرالاته بتوسيع الحضور العسكري الأمريكي في كل من العراقوسوريا من أجل هزيمة تنظيم «الدولة»زو وعرقلة التوسع الإيراني. ولهذا السبب فهناك الكثير من الأحداث التي ينتظر حدودها. ومن هنا يتساءل الكاتب إن كان الروس ينتصرون في منطقة ظلت مسرحا للأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة حتى الحرب الكارثية ضد العراق عام 2003. ويعود الكاتب بنا إلى ما قبل وصول ترامب للسلطة. ففي عام 2015 استخدم بوتين خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي يسخر من الولاياتالمتحدة والغرب متهما إياه بأنه كان وراء ظهور الجهادية. وأدى دعمهم لتغيير الأنظمة في مرحلة ما بعد 2011 لخلق الحاضنات المناسبة لولادة المتشددين. وقال هادرا في حينه:» هل تعرفون ماذا فعلتم؟». وربما كانت روسيا قوة تصحيح في أوروبا إلا أنها في الشرق الأوسط مع سياسة الأمر الواقع. وفي الوقت الذي تدعم فيه الولاياتالمتحدة حكومة ما بعد غزو العراق في بغداد وتعارض نظام الأسد، فروسيا تدعم بقاء كل من الأسد والحكومة الشيعية. ويرى الكاتب أن واشنطنوموسكو يمكنهما زعم النصر في الشرق الأوسط. ويمكن لبوتين الإشارة إلى سقوط حلب في كانون الأول (ديسمبر) والتي كان سقوطها بيد النظام نقطة تحول في الحرب الاهلية التي دخلت عامها السابع. أما أمريكا فهي تقترب مع حلفائها العراقيين من إخراج تنظيم «الدولة» من الموصل التي احتلها قبل 3 أعوام. وتظل الانتصارات التي يمكن للقوى الكبرى إدعاءها جوية. وعلى الأرض، فالصورة أكثر تعقيدا. ففي سوريا اندهشت روسيا من تراجع أعداد القوات النظامية التابعة للنظام وأخذت تعتمد على الميليشيات الموالية له والقوات الوكيلة لإيران مثل حزب الله. أما في العراق فالقوات العراقية وإن استعادت قوتها إلا أنها تعتمد على الأمريكيين وقوات البيشمركه. ويقول غاردنر، إن إدارة ترامب في حالتها الفوضوية وغياب الرؤية المتماسكة تعطي الروس نقاطا متقدمة على الرئيس الذي يكتب تغريدات أكثر مما يهتم بالسياسات. وينقل الكاتب عن ديمتري ترينين، من مركز كارنيغي في موسكو ومؤلف كتاب يحمل عنوان «ماذا تريد روسيا من الشرق الأوسط؟ «سيصدر قريبا قوله إن تدخل بوتين في سوريا لا علاقة له بإنقاذ الأسد ولا الشرق الأوسط ولكن عن النظام الدولي ووضع روسيا على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة. ويقول إن روسيا «خرجت من مشاركتها العسكرية في سوريا بعلاقات واسعة في المنطقة» وأقامت علاقات قوية مع قادة تركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات وقطر ومصر والكويت والبحرين والأردن ولبنان. وفي الوقت نفسه «تجنبت روسيا الوقوع في تصدعات الشرق الأوسط: السنة ضد الشيعة والسعوديون ضد الإيرانيين وإيران ضد إسرائيل وتركيا ضد الأكراد» وهو علامة عن لاعب دولي، مع أن ترينين يرى أن ما حققته روسيا هو «نتيجة مؤقتة». وفي الوقت الذي تجنب فيه بوتين الإنقسامات حتى الآن إلا أنه يتحالف مع قوى يعتبر الاستغلال وزرع الفرقة من طبيعتها. وتفعل إيران هذا مع العرب وتركيا مع الأكراد. كما أن عدم اهتمام الولاياتالمتحدة الواضح في كل من العراقوسوريا بعد تنظيم «الدولة» الإسلامية يسبب مشاكل لروسيا. ويظل بوتين مرتبط بسوريا التي لا ينفصل مصيرها عن العراق. وكلاهما لا يبشران بخير ومرتبطان بإيران عدوة الولاياتالمتحدة. وفي النهاية قد يكون لدى بوتين «الاتصالات» الواسعة التي تتفوق على الولاياتالمتحدة إلا أن الدول التي يتعامل معها أصبحت في معظمها مناطق ميليشاوية أو دول فاشلة ويجب عليه أن يثبت قدرته الابتعاد عن المؤامرات المحلية.