تمرُّ الأيّام، وتمضي السِّنُون، ويقدر علينا شهر الذّكرى، ذكرى مولد فخر الوجود، محمّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه.. الذي أكْرَم الله به الإنسانية فجعله رحمة للعالمين، وأخْرَج الله به النّاس من الظلمات إلى النّور {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} الأنبياء: .107 إنّه الشهر المبارك الميمون (شهر ربيع الأول) يطلع علينا بأنواره وأسراره، ليذكّرنا بنِعمة الله العُظمى علينا نحن المؤمنين، حيث تداركنا سبحانه، وله الفضل والمنّة، ببعثة خاتم النّبيّين، وسجّلها في كتابه الخالد، قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} آل عمران: .164 وفي هذه المِنَّة من ربّ العزّة والجلال على عباده المؤمنين، خمسُ نِعَم، ذكَّرنا الله بها في هذه الآية الكريمة. النِّعمة الأولى: أنّ الله خَصَّ بهذه المِنَّة (المؤمنين) لأنّهم آمنوا مع سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالله، ولأنّهم هم المنتفعون بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وكان على قريش أن يشكروا الله على هذه النِّعمة، ولكنّهم بدَلاً من الشُّكر كَذَّبُوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، واستكبروا، وعَتَوْا عن أمرِ ربِّهم، فأخذهم العذاب، وأذَلَّهُم الله تعالى بسبب ظُلمِهم وكُفرهِمْ وبغيهم، فهُزِموا في بدر، وتتالَت هزائمهم حتّى فتح الله مكّة على رسوله صلّى الله عليه وسلم. النِّعمة الثانية: أنّ الرّسول من العرب، {بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} هو محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم، أرسله الله عزّ وجلّ بالهُدَى ودِينِ الحق؛ لِيُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وتلك النِّعمةُ العظمى والمِنَّةُ الجسيمةُ نَوّهَ الله تعالى بها في معرض الثناءِ على نفسه سبحانه في آياتٍ كثيرةٍ منها قوله تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأمّيين رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ويعلمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ × وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ × ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الجمعة: 2.4 ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.. ولقد كان فَضَّل النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام على الأنبياء الآخرين بعدة فضائل، وهذا ما يوضِّحه لنا الحديث الشّريف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ''فُضِّلْتُ على الأنبياء بِسِت: أُعْطِيتُ جوامع الكَلِم ونُصِرتُ بالرُّعْب وأُحِلَّت لي الغنائم وجُعِلَت لي الأرض طَهُورًا ومسجدًا وأُرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النّبيون'' رواه مسلم. النِّعمة الثالثة: نزول النُّور الإلهي، {يتلو عليهم آياته} أي القرآن العظيم، المُنزَّل على سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من الله عزّ وجلّ عن طريق سيّدنا جبريل عليه السّلام في مناسبات عديدة منذ بعثته حتّى وفاته عليه الصّلاة والسّلام. وقد تَمّ تدوين القرآن بواسطة بعض صحابة رسول الله رضوان الله عليهم في حياته صلّى الله عليه وسلّم، إلاّ أنّه لم يتم جمعه في كتاب واحد في ذلك الحين. وقد جُمع القرآن في كتاب واحد لأوّل مرّة في زمن الخليفة الراشد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ثُمّ تَمّ نسخه في عدة نسخ وتوزيعها على مختلف الأمصار المسلمة في عهد سيّدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه. النِّعمة الرابعة: تزكية النّفوس، {ويُزكّيهم} بما يرشدهم إليه من الأعمال الصّالحة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية. بمعنى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم. النّعمة الخامسة: التربية والتعليم، {ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} أي القرآن والسُنّة بعدما كانوا أجهل النّاس وأبعدهم عن دراسة العلوم، قبل مبعث الرّسول الكريم محمّد صلّى الله عليه وسلّم.