النّاس عبيد لِمَن أحسن إليهم وقدّم لهم معروفًا، أو نفّس عنهم همًّا. وقد قيل: أحسن إلى النّاس تستعبد قلوبهم فلطالما استعبد الإحسان إنسانًا وقصص الوفاء وردّ الجميل كثيرة، وهي من شيم الأحرار دون غيرهم، فالحر كما قال الشافعي: ''مَن يحفظ وداد لحظة، وتعليم لفظة''. وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: ''مَن علّمني حرفًا صِرتُ له عبدًا''. نقول هذا عمّن كان سببًا في حصولك على وظيفة أو سكن أو تسديد دين أو دواء، وهذه سُنّة التّسخير بين البشر. قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا سُخْرِيًا}. وإذا كان هذا حالنا مع مَن أسدى إلينا شيئًا ممّا ذكرنا، فكيف بنا ممّن قدّم أغلى ما يملك بل ما لا يقدر بثمن في حساباتنا المادية والدنيوية. مَن قدّم نفسه وعمره ودمه من أجل أن يحيا غيره ممّن يعرف ومَن لا يعرف. لقد وهبوا أنفسهم فجعلوها شموعًا تحترق وتفنى، ليبقى غيرهم يتمتع بما كان حرامًا عليهم من الحرية والحياة الكريمة. إنّهم الشّهداء الّذين آثروا الموت في سبيل الله على أمل أن يحيا غيرهم في سبيل الله. وحكمة الله اقتضت أنّ لكلّ نتيجة مقدّمة، وأنّ لكلّ هدف سام ثمن غال، ولَو كان الثمن دماء تسيل وديانًا ليصل الأحياء على جماجمهم إلى الحرية والاستقلال. إنّهم شهداء الجزائر، وما أكثرهم على مدار قرن وربع، فكانوا بذلك وسام شرف الأحياء اليوم، يحملونه معهم كلّمَا دخلوا بلدًا يستقبلون ب''مرحبًا بأبناء المليون ونصف مليون شهيد''. إنّهم شهداء التّحرير ممن كتبوا أسماءهم بدمائهم الزّكية، فآثروا العزّة بدل الذّل والحرية والرّق، شعارهم في ذلك إمّا نصر أو استشهاد. صدقوا الله فصدقهم، ونصروا الله فنصرهم، فحقّق الله مرادهم وبلّغهم آمالهم وأحيا بموتهم أمّة هي اليوم حُرّة مستقلة، تحتاج منّا أجيال الاستقلال، أن نحيا في سبيل الله من أجلها. للشّهيد عند الله منزلة رفيعة وصُحبة صالحة أعدّها الله لهم: {ولا تحسبن الّذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربّهم يرزقون}، {ومَن يُطع الله والرّسول فأولئك الّذين أنعم الله عليهم من النّبيئين والصّديقين والشّهداء والصّالحين وحسُن أولئك رفيقًا}. وممّا ذكر في السُنّة في فضل الشّهيد عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''للشّهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أوّل دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنّة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمَن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفَع في سبعين من أقاربه''، رواه الترمذي. أمّا رسالة الشهداء، ونحن في ذكرى الشّهيد، إلى مَن عايشهم أو ممّن وُلِد في سماء الحرية ولم يذق ويلات الاستدمار، وما أدراكم ما جرائم فرنسا في حق آبائنا وأجدادنا، رسالة مَن مات في سبيل الله للأحياء من بعدهم أنّ أرواحنا كانت فداء لكم من أجل بناء الجزائر، وحفظ مقوماتها وثوابتها. لذلك، فالأمانة عظيمة عظم التّضحيات الّتي قدّمها هؤلاء، ومَن خانها فقد ظلمَهُم وسيسأل، ستحاكمه الأجيال على خيانته وأنانيته، كما سيحاكمه ملك الملوك يوم القيامة. رسالة الشّهداء لمَن تقلّد منصبًا من مناصب الدولة، أيًّا كان موقعه، أنّ الوفاء بالعهد هو حفظ البلد وتحقيق آمال الشّهداء في جزائر قوية متطورة، في ظلّ الإسلام والعروبة. قال صلّى الله عليه وسلّم: ''لا تزال أمّتي بخير ما لم تر الأمانة مغنمًا والصدقة مغرمًا''.