إذا كانت حملة غزو العراق أمريكية، فإن الحرب ضد ليبيا في محصلتها مواجهة بين باريس وطرابلس، تختفي من ورائها رغبة صناع القرار بقصر الإليزي في حمل الزعيم الليبي معمر القذافي على دفع فاتورة التجاذبات التي شهدتها القارة الإفريقية وساهمت في انكماش النفوذ الفرنسي بمنطقة تعد آخر معاقل الإرث الاستعماري الفرنسي. واتضح أن باريس في فترة حكم نيكولا ساركوزي كانت بحاجة إلى انتصار معنوي تحضر بها الرهانات الانتخابية المقبلة، بما في ذلك الرئاسية، بعد انتكاسات سجلت في مناطق كانت تعتبر من أهم نقاط التواجد الفرنسي في تشاد والنيجر ومالي أو موريتانيا وجيبوتي. فقد فشل ساركوزي في الحفاظ على المكاسب الظرفية التي حصل عليها شيراك، حتى في الدول التي كانت تقليديا معروفة بقربها سياسيا واقتصاديا من باريس. ولم ينجح ساركوزي في استعادة جزء من الشبكات التي أرساها مستشار الشؤون الإفريقية، جاك فوكار وجون كريستوف ميتران، رغم تجنيد شخصيات بعد إلغاء ساركوزي للخلية الإفريقية مثل كلود غيون وروبير بورجي وباتريك بالكاني، فضلا عن وزير الخارجية السابق برنارد كوشنير. لقد بدا واضحا أن سياسة الانتشار الليبي في منطقة الساحل مع شبكة التحالفات القائمة مع عدة قبائل إفريقية وقبائل التوارق ودعم القذافي لها بالمال والسلاح والدعم اللوجستيكي، أثار انزعاج باريس التي ضاعفت من تقاريرها الاستخباراتية حول مخاطر انكماش الدور الفرنسي في المنطقة جراء تحديات، منها الاختراق الليبي وشبهات وجود تحالفات غير معلنة، أو على الأقل مصالح متقاربة بين القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجزء من التوارق والعقيد القذافي تهدد مصالح باريس الاستراتيجية، خاصة مع تحول تشاد إلى دولة منتجة ومصدرة للنفط والاهتمام باليورانيوم النيجيري، وتكثيف التواجد الأمريكي العسكري والاستخباراتي في منطقة الساحل وإقامة قواعد في جيبوتي معقل التواجد الفرنسي. ولم تتوان باريس في إعادة سيناريو العراق الأمريكي بأدوات مستحدثة سواء من خلال العمل الاستخباراتي للهيئة التي يقودها ايرار كوربين دو مونغو، والجنرال كريستوف راستوي، وريمي مارشو، أو استعمال الدبلوماسية الخفية عبر بيرنارد هنري ليفي. وأعادت باريس بلورة نظرية السيادة المحدودة الأمريكية المطبقة في العراق، مع مقاربات كوشنير حول الحق في التدخل لأغراض إنسانية للتدخل في ليبيا. وعلى ضوء ذلك لم يكن مفاجئا سرعة اتخاذ القرارات الفرنسية منذ بداية الأحداث في ليبيا، فقد وضعت باريس الأطراف الأوروبية أمام ''مأزق ديبلوماسي'' و''حرج سياسي''، مع الكشف عن مواقف معلنة لصالح المعارضة المسلحة، والتوجه للتواجد المباشر تحت غطاء المساعدات الإنسانية في بنغازي معقل المعارضة حتى قبل إعلان عن إنشاء المجلس الوطني الانتقالي، الذي تم الكشف عنه بعد الاتصالات التي تمت بين عبد الفتاح يونس أحد رموز المجلس ووزير الخارجية ألان جوبي في 5 مارس، ثم اعتراف باريس بالمجلس بعد استقبالهم في الإليزيه تحت غطاء مساعي قام بها برنارد هنري ليفي، المدعم بتقارير استخباراتية، دون توافق أوروبي، والسعي لقيادة العمليات العسكرية خارج نطاق حلف الناتو التي عادت إليها باريس صاغرة لتكون تحت القيادة الأمريكية الجنوبية في إيطاليا.