إذا كانت الحرب الساخنة أو المباشرة بين الجزائروفرنسا قد انتهت رسميا في سنة 1962 وذلك بانتصار الثورة الجزائرية التي أجبرت المحتل الفرنسي على إعلان وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962، فإن الحرب الباردة أو الصامتة لم تضع أوزارها بعد بين البلدين منذ ذلك الحين، ذلك لأن فئة معتبرة من النخبة الفرنسية السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية لم يفارقها الحنين إلى الماضي الاستعماري ولم تهضم فكرة ضياع "الجنة" الإفريقية (الجزائر) من فرنسا إلى الأبد، ومن الجانب الجزائري فإن الطبقة السياسية في غالبيتها والأسرة الثورية بكاملها يعتبران أن ملف الاستعمار الفرنسي مازال مفتوحا وأن الحساب لم يصف بعدما دام الطرف الفرنسي لم يقدم اعتذارا صريحا وتعويضا مناسبا للشعب الجزائري عن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حقه، وإذا كانت هذه هي الخلفية التي تطبع لوحة العلاقات الجزائرية الفرنسية، فإن تلك العلاقات في حد ذاتها تتراوح بين الصعود والهبوط وبين التوتر والانفراج بحسب الألوان السياسية وحتى الأمزجة العاطفية والميولات الشخصية لرؤساء الجمهورية والحكومات المتعاقبة على حكم فرنساوالجزائر• ويمكن القول إجمالا، إن أكثر تلك الفترات توترا هي فترة السبعينيات تحت حكم الرئيس جيسكار ديستان في فرنسا وحكم الرئيس هواري بومدين في الجزائر، وأن أكثر الفترات انفراجا هي فترة حكم الرئيس الجزائري الحالي السيد عبد العزيز بوتفليقة وفترة حكم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (1996 - 2006)• لقد توقع بعض المحلّلين أن يؤدي فوز مرشح اليمين الفرنسي نيكولا ساركوزي برئاسة فرنسا على حساب مرشحة اليسار الاشتراكية سغولين روايال في سنة 2006 إلى انتكاسة في العلاقات الجزائرية الفرنسية بسبب الأصول اليهودية لساركوزي والميول الاستعمارية واللهجة العنصرية ضد المهاجرين التي ظهرت في خطابه الانتخابي، إذ وعد الفرنسيين بتطهير الضواحي الباريسية من الحثالة (المهاجرين) وطلب منهم عدم الخجل من ماضيهم الاستعماري! وبعد فوز ساركوزي بالرئاسة، احتفل المحافظون الجدد في أمريكا الذين كانوا يكرهون جاك شيراك بسبب معارضته لغزو العراق، كما احتفل الإسرائيليون الذين استبشروا بمقدم هذا الرئيس ذي الأصول اليهودية والذي لعب اللوبي اليهودي الفرنسي دورا حاسما في فوزه الانتخابي! راهن ساركوزي على قدرته لإعادة المجد المفقود للدولة الفرنسية وإحياء نفوذها في منطقة البحر الأبيض المتوسط وعمل على تحييد المعارضة الأمريكية بالإنضواء تحت مظلة الحلف الأطلسي الذي غادره الجنرال ديغول، احتجاجا على الهيمنة الأمريكية، وسعى ساركوزي إلى تأسيس الإتحاد المتوسطي لضمان أسواق الجنوب ومنابع الطاقة للإتحاد الأوروبي من جهة• والإلتفاف، من جهة أخرى، على المقاطعة العربية لإسرائيل وفتح أبواب التطبيع الفعلي واسعة أمامها عبر الشراكة المتوسطية وإيجاد علاج ناجع للخوف الأوروبي من تدفق أمواج الهجرة على القارة العجوز• كما راهن ساركوزي على جلب ملايير الدولارات لفرنسا من إبرام عقود باهظة مع الجزائر وفتح الأسواق الجزائرية أمام المنتجات والسلع الفرنسية• وعندما رفضت الجزائر رهن مصالحها الوطنية لفرنسا واتخذت إجراءات قانونية وسيادية لحماية اقتصادها الوطني، جن جنون فرنسا التي تعتقد دائما فيما يخص الجزائر أنها تتعامل مع محمية من محمياتها وليس مع دولة مستقلة ذات سيادة ومصالح يجب مراعاتها! رد الفعل الفرنسي جاء متعدد الأشكال والميادين تراوح من إعادة الاعتبار للماضي الاستعماري إلى محاولة تطويق الجزائر أمنيا من حدودها الجنوبية والغربية إلى محاولة التحريض عليها سياسيا والتشكيك في الطابع السلمي لبرنامجها النووي، رغم أن فرنسا كانت قد وقعت اتفاقية لتزويد الجزائر بمفاعلات لإنتاج الطاقة النووية قبل سنتين فقط! إلى محاولة التشويش عليها إعلاميا وأمنيا بإحياء قضايا أكل عليها الدهر وشرب وتبين فيها الخيط الأبيض من الأسود! فبعد افتعال قضية الدبلوماسي الجزائري محمد زيان حسني واتهامه زورا وبهتانا باغتبال المعارض الجزائري علي مسلي في الثمانينيات في محاولة للضغط على الجزائر لصرف النظر عن المطالبة بالاعتذار عن جرائم الاستعمار وتقديم التعويض عنها كما فعلت إيطاليا مع ليبيا على سبيل المثال• أثارت كبريات الصحف الفرنسية مجددا قضية اغتيال الرهبان الفرنسيين السبعة بمنطقة تيبحرين بولاية المدية وأوردت شهادة جنرال فرنسي سابق شغل في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي منصب الملحق العسكري في سفارة فرنسابالجزائر• ثم جاءت قضية إنشاء مؤسسة لذاكرة حرب الجزائر لتمجيد دور الحركى والاشادة بالدور الوطني للفرنسيين العائدين من الجزائر (وهم من الأقدام السوداء والمعمرين ومجرمي الحرب الفرنسيين)• وإمعانا من فرنسا الاستعمارية في تقليب السكين في الجرح التاريخي، أعلنت مؤخرا أكاديمية العلوم الفرنسية من وراء البحار عن إنشاء جائزة لأحسن عمل يمجد الماضي الاستعماري! وبهذا تكون المؤسسات الفرنسية هي السباقة في العالم لتمجيد الخيانة والجريمة وتخصيص الأموال لتكريمها! في تصعيد آخر للحملة الفرنسية على الجزائر، نشر في الأسابيع الماضية المختص الفرنسي في القضايا النووية والذي شغل في السابق مناصب سامية في المؤسسة العسكرية الفرنسية برونوتارتري كتابا بعنوان "السوق السوداء للقنبلة" طالب فيه بوضع الجزائر في "خانة الدول الخطيرة" نوويا بسبب عدم توقيعها على البروتوكول الإضافي لحظر انتشار الأسلحة النووية ودعمها لبرنامج ايران النووي• وهكذا لم يتعرض الخبير الفرنسي بأي نوع من أنواع التحذير من خطورة البرنامج النووي الإسرائيلي، رغم أن العالم النووي الاسرائيلي موردخاي فعنونو قد حذر في العام الماضي فقط (2008) من النوايا العدوانية الاسرائيلية" واتهم قادة الكيان الصهيوني بتمهيد الطريق لحرب نووية تدميرية في الشرق الأوسط، تطول أغلب الدول العربية والإسلامية! ولكن ليس من الغريب حدوث هذا التواطؤ بفرنسا واسرائيل في مجال السلاح النووي، فقد كانت فرنسا هي المسؤولة عن إنشاء المفاعل النووي الاسرائيلي "ديمونا" سنة 1957 هذا المفاعل الذي يقدر بعض الخبراء أنه أنتج لحد الآن ما يقارب 200 رأس نووي• ولم يحذر تارتري من خطورة السلاح النووي الفرنسي الذي بدأت تجاربه في الصحراء الجزائرية سنة 1960 بحضور خبراء اسرائيليين تمت دعوتهم من طرف القيادة الفرنسية التي جربت قوة التفجير وآثاره الاشعاعية على أجساد جزائريين أحياء، ومع ذلك لم يكتف جاك شيراك بما امتلكته فرنسا من ترسانة نووية جبارة، بل تحدى الاعتراضات الدولية واحتجاجات المنظمات السلمية في العالم، أجرى في التسعينيات سلسلة من التجارب النووية الجديدة في جزيرة "موروروا" المحتلة لإكمال ما أسماه "بمنظومة الأمن الفرنسي"! لقد أثيرت في بداية التسعينيات حملة مسعورة في الصحف الأمريكية الواقعة تحت نفوذ اللوبي الصهيوني على غرار صحيفة "واشنطن تايمز" عن سعي الجزائر لامتلاك القنبلة النووية واكتشاف الخبراء لبضعة لترات من الماء الثقيل وبضعة كيلوغرامات من اليورانيوم المشع في مفاعل "السلاح" النووي بعين وسارة بولاية الجلفة ولكن الجزائر فتحت مفاعلاتها النووية "الفور" بدرارية بضواحي العاصمة ومفاعل "السلاح" لمفتشي وكالة الطاقة الذرية ثم وقعت سنة 1995 على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي• وقد اعترف الأمريكيون بعد ذلك وعلى لسان الخبير الأمريكي السيد كلاتيون بأن المخابرات الإسرائيلية هي التي زودت الولاياتالمتحدة بمعلومات مضللة عن البرنامج النووي الجزائري بهدف إفشال كل محاولات التعاون بين الجزائر والدول الغربية المتقدمة في مجال الطاقة النووية وبعد ذلك أصبحت أمريكا تؤكد على عدم تخوفها من البرنامج النووي الجزائري على غرار نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق بيتر رودمان الذي زار الجزائر سنة 2006 وتم توقيع اتفاق بين الجزائر وأمريكا في مجال الطاقة النووية سنة 2007• ولكن فرنسا التي حظيت بأكبر وأغلى عقد في مجال التعاون مع الجزائر في الطاقة النووية بعد زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للجزائر في ديسمبر 2007 والمقدر بملايير الدولارات رفضت حسب ما صرح به مصدر جزائري رفيع لجريدة "القدس العربي" أن تكون الإطارات الجزائرية في مجال التكنولوجيا النووية، كما رفضت نقل التكنولوجيا إلى الجزائر والانتصار على الجانب التجاري فقط، كما ظلت فرنسا ترفض القيام باستثمارات مباشرة في الجزائر للمساهمة في مجهود التنمية الجزائرية• ولهذه الأسباب ولغيرها أيضا، رفض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مقابلة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على هامش الدورة الرابعة والستين للأمم المتحدة التي عقدت الشهر الماضي بنيويورك والجزائر لا تتوانى عن الضربات ولا تتهرب من المواجهات عندما تفرض عليها!