الذين يرفضون المشاورات يطالبون بحوار جاد. وبآليات شفافة تساعد على إنجاح أي اتفاق تنجبه المواقف. لكن دعاية السلطة تريد إيهامنا بأن المقاطعين يرفضون الحوار. لا، ليس الحوار هو المرفوض. بل هو المرغوب، والمنتظر. يقول خبراء القانون الدستوري بأن الجزائر كان بإمكانها قطع أشواط في مسارها نحو دولة القانون لو أنها عملت بما لديها من نصوص. ولو أن السلطة كانت نموذجا سياسيا واجتماعيا في احترام ما تصنعه من قوانين. فالمشكلة ليست كلية في النصوص. إنها في عدم احترام هذه النصوص. وعندما نستمع لحديث وزير العدل مع النواب، عن النواب الذين يرفضون الكشف عن ممتلكاتهم، ندرك بأن المطالبة بالتغيير وفق القواعد المتوفرة حاليا هو ضرب من الخيال. لا الظروف ولا شروط الحوار الجاد والجدي متوفرة. فالأحزاب التي تتهيأ لتشريعيات 2012 وكأنها تتهيأ لعرس من أجل وليمة وحصد الغنائم. فقط العرسان ليسوا من الشباب. نفس الوجوه في حراك وصراع من أجل خلافة نفسها. فمنذ الاعتداء على الدستور، من خلال تعديل عدد عهدات الرئيس من قبل ال500 صوت نائب، أغلبهم لم يكشف عن ممتلكاته، أصبحت كلمة السر المعلنة هي تعميم القاعدة، لتعميم الفائدة على المسؤولين وإطارات الأحزاب. ويشكل هذا الجو البائس سببا من أسباب انتفاء ظروف توفير جو ملائم لحوار جاد وجدي. والعدوى منتشرة. في مرحلة صياغة تقرير عن جلسات المجتمع المدني الذي نظمه منذ أسبوع المجلس الاقتصادي والاجتماعي ''الكناس''، تم حذف فقرات تتعلق بالفساد وتحقيق النمو. وحسب تقارير صحفية، فإن الصيغة النهائية للتقرير لم تقم بتدوين أجزاء من المداخلات التي تناولت الموضوع. السؤال البريء، وغير البريء في آن واحد: هل يرضى رئيس الجمهورية أن يتلاعب به كاتب تقرير، وبأن يقرّر الأخير ما سيقرأه رئيس الجزائر؟ ثانيا، إذا كانت نية استخدام المقص موجودة، لماذا لم يتم تخصيص الدعوات على ''المطيعين'' من الداخل ومن الخارج؟ حيث يوجد من الملاحظين الدوليين من يقوم بمهام الحاجب، لأي حكومة تدفع لهم. بما في ذلك مراقبة الانتخابات الرئاسية، والتصديق على نزاهتها. من السذاجة الاعتقاد بتجاوز حالة ''الفساد'' لمجرد محوه من ملف أو تقرير. هو ليس بحاجة إلى إعلانات إشهارية لتذكر به، أو تنبهنا من مخاطره. الفساد هو ''علامة'' فوق التقارير. ويعلو الخطب والأخبار. إنه واقع عجز أمامه السياسي. إن سلوكا مثل تحوير محتوى التقارير، سواء كان التحوير بطلب من جهة أو هو تلقائي من الفاعل، يجسد الظاهرة المرضية. فالخوف من مواجهة الحقيقة هو الذي يتحكم بالسلوك، ويوجهه. وهؤلاء يشكلون محيط السلطة. فماذا عن السلطة؟ في إحدى روائعه، يقول نزار قباني ''يا سادتي، لم يدخل العدو من حدودنا، بل تسرّب من عيوبنا''. السلطة ممثلة في رئيس الجمهورية، مطالبة بسد الثغرات التي تنفذ منها عيوب التسيير. و''الخطر'' القادم من الاستعمار القديم لم يعد يحرك مشاعر، في زمن صغرت فيه أسماء وأكل الصدأ لمعان، كان يعلو رموز ثورة قدسناها، ولا نزال نقدسها. وسنبقى نقدسها، من دون انتظار عرفان أو جزاء. لم يكن غريبا أن تصل مسيرة التراجع إلى تصغير الآخر على خلفية حسابات شخصية. وقد كشفت تصريحات بن بلة أو ياسف سعدي.. كيف يكون الرجل خطيرا على بلده وعلى تاريخه وعلى صورته. فالكلام لم يأت في سياق شهادات موثقة خدمة للحقيقة وللتاريخ، وإنما جاء في شكل جمل متقطعة، تميل إلى الانتقام وتصفية حسابات شخصية. هل العلاقات الشخصية تؤثر على سلوك الدولة؟ يمكن العثور على الإجابة من خلال مطالعة كتب مؤرخين، وشهادات ثوار صنعوا الساعات الأولى لحرب التحرير، وانسحبوا في الساعات الأولى من الاستقلال، بسبب صراعات شخصية، وحسابات شخصية. الإجابة نعثر عليها في الكتب وشهادات مجاهدين، وفي الواقع المعيش. بالحسابات الشخصية، تمت عملية بناء التوازن. ومن التوازن تم عجن ثقافة سياسية وصقل الممارسة، التي تجعل من النص، مهما كان موضوعه أو اختصاصه، خدعة ومطية. فمن يتجاوز الدستور، والقوانين العضوية، أو قانون المرور؟ أنا، أنت؟ التطور الذي تعرفه الجزائر العميقة لم يصاحبه تطور في السلوك. فالعلاقات الشخصية هي المرجعية.. وهي مصدر العيوب.