الفريق الشاذلي لم ينس فضل الجزائر واحتضانها له لأكثر من 14 سنة من المنفى / كنا نُعامل في الجزائر كعائلة رئيس دولة نقاضي صحيفة ''الأهرام'' لأنها زوّرت صور غرفة عمليات حرب أكتوبر واستبدلت صور الشاذلي بصور مبارك / عزاؤنا أن الملايين التي كانت تدعو في جمعة التنحي لمبارك بالجحيم كانت تدعو للشاذلي بالرحمة من خير من الجزائر تشفع لك عند عائلة الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي توفي عشية تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، فأرملته التي تجاوزت محنة وفاة الفريق الذي رافقته في محنة المنفى بالجزائر، لا تستقبل الصحفيين عادة، لكنها وافقت دون تردد على استقبال ''الخبر'' في بيتها في حي ''التجمع الخامس '' شرقي مدينة القاهرة إكراما للجزائر والجزائريين .
كانت السيدة زينات السحيمي في انتظارنا في الموعد المحدد على الساعة الرابعة مساء إلى غاية الساعة الخامسة، فقد علمها الفريق الراحل طبيعة الحياة العسكرية والانضباط في المواعيد والزيارات. فتحت لنا ابنته شهدان باب المنزل الذي مازال الصمت والرهبة تخيمان عليه، استقبلتنا السيدة زينات السحيمي، وحسرتان لها في القلب، حسرة الوفاة التي يشفع فيها أنه الآن عند ربه، وحسرة أكثر إيلاما، أن يرحل الفريق يوم الخميس 10 فيفري، ويدفن صبيحة يوم الجمعة 11 فيفري، دون أن يتيح له القدر أن يعيش يوما واحدا ليرى مصر تتحرر من طغيان مبارك وزبانيته. عانقتنا بحرقة، وهي تدعو للجزائر التي احتضنتها والفريق سعد الدين الشاذلي لأكثر من 14 سنة، عرفت في هذه اللحظة أنني قلبت على السيدة الكريمة المواجع والذكريات بحلوها ومرها، تركت لها ما شاءت من الوقت لتستعيد هدوءها حتى بادرتنا بالسؤال عن الأوضاع في الجزائر، وعن الأبيار، وعن الحي الذي كانت تقيم فيه بالقرب من السفارة الأمريكية في شارع البشير الابراهيمي، لتؤكد أن الفريق سعد الدين الشاذلي وعائلته تدين للرئيس الراحل هواري بومدين والرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، ومن ورائهما للجزائر كلها بالفضل في احتضانهما، منذ أن خرجا من مصر بعد الخلاف الذي دب بين الفريق الشاذلي والرئيس المصري الأسبق أنور السادات، حينما قرر الأخير وقف الهجوم العسكري على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، برغم النصر الاستراتيجي الذي حققه الجيش المصري، والتحول إلى مفاوضات مع إسرائيل انتهت بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد عام .1978 ولجأ السادات قبلها إلى التخلص من الشاذلي بتعيينه سفيرا لمصر في لندن ثم البرتغال، لكن الأخير فهم الرسالة، وقرر أن يكشف الحقيقة للتاريخ، ونشر مذكراته الخاصة عن تلك الحرب، لتبرئة ذمته التاريخية والأخلاقية أمام الشعب المصري والأمة العربية، لكن السادات اعتبر ذلك خروجا عن نظامه وتمردا سياسيا، وقرر إحالة الفريق سعد الدين الشاذلي إلى المحكمة العسكرية بتهمة إفشاء أسرار عسكرية. غير أن قيادة الجيش المصري والمخابرات العامة وجدت حرجا كبيرا في أن يحال إلى المحكمة العسكرية قائد عسكري بحجم الشاذلي قائد العبور، وصاحب خطة ''بدر'' التي مكنت الجيش المصري من عبور القناة وتدمير خط بارليف الدفاعي الذي أقامته إسرائيل على الضفة الأخرى من القناة، ورفضت القيادة العسكرية للجيش المصري قرار السادات، ما دفعه إلى إحالة القضية إلى محكمة مدنية، لكن القضية حفظت، إلى غاية عام ,1983 عندما قرر الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك إحياء القضية وإحالتها على محكمة عسكرية قضت غيابيا في حق الفريق الشاذلي بالسجن لمدة ثلاث سنوات، ولم تسمح المحكمة للمحامي الذي وكله عدد من أفراد عائلة الفريق التي كانت تقيم في مصر بالدخول إلى قاعة المحكمة أو المرافقة. حياة سعد الدين الشاذلي في الجزائر ومحاولات إغتياله تعود السيدة زينات إلى أيامها الأولى في الجزائر، وتقول إنه حين قرر الشاذلي إعلان معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، والاستقالة من منصبه كسفير لمصر في البرتغال، عرض عليه العديد من الرؤساء والملوك الإقامة عندهم، لكنه اختار الجزائر، وبرر اختياره أنها دولة تقوم على مبدأ الحكم الجماعي وليس الحكم الفردي. أيام عائلة الشاذلي الأولى في الجزائر كانت صعبة بعض الشيء، فزوجته لم تكن تعرف اللهجة الجزائرية، لكنها تعترف أنها عاشت والفريق الشاذلي في الجزائر 14 سنة معززين ومكرمين، بل إنهم كانوا يُعاملون بشكل راق مثل عائلة رئيس دولة. وتصف السيدة زينات السحيمي الجزائريين بالملائكة، وتحتفظ بكثير من الذكريات الرائعة من الجزائر التي وفرت لزوجها الحراسة، خشية تعرضه للاغتيال من قبل السادات ومن بعده مبارك، بناء على تحذيرات وردت إليه من صهر الرئيس جمال عبد الناصر، أشرف مروان. وتؤكد أن الحنين كان يشد الفريق إلى الجزائر، حيث ظل يتابع أخبارها، مشيرة إلى أنه سعى إلى تحقيق المصالحة الوطنية في الجزائر، التي عاش فيها أياما رائعة. وأصدر خلال منفاه فيها إضافة إلى مذكراته حول حرب أكتوبر، أربعة كتب هي الحرب الصليبية الثامنة، وكتاب الخيار العسكري العربي، وأربع سنوات في السلك الدبلوماسي. عودة إلى مصر... وإعتقال وصلت زينات السحيمي حرم الشاذلي إلى القاهرة يومين قبله، وعندما ذهبت إلى مطار القاهرة لاستقباله في العاشر من رمضان عام 1992، تفاجأت بانتظارها الطويل له دون أن يظهر له خبر، ولم تكن تعلم أن عصابة مبارك اختطفت الرجل فور نزوله من الطائرة على أرضية مطار القاهرة، وضعوه في السجن لمدة يومين دون أن تعلم عائلته عنه شيئا، ولم ينفعه سوى بث الخبر في وكالات الأنباء العالمية لإنقاذ حياته، فقد كان يمكن اغتياله في صمت ومحو آثار وصوله من الجزائر. ولم يخجل مبارك من نفسه، في أن يُودِع قائده ومعلمه السابق في السجن، تنفيذا لحكم غيابي، كان مقررا وفقا للقانون المصري أن يتم إعادة النظر فيه حال مثول المتهم. وقضى الفريق سعد الدين الشاذلي سنة ونصف السنة من ضمن ثلاث سنوات كان محكوما بها، في سجن المستشفى العسكري، لكن السجن تحول إلى ما يشبه الجامعة، حيث كان يلتحق المرضى والضباط بالفريق سعد الدين الشاذلي لمناقشته والاستفادة من خبرته، وهو ما أغاظ الرئيس مبارك، الذي قرر نقل الضباط والمرضى من الجناح الذي كان فيه الشاذلي لمنعهم من التواصل معه، وزيادة عزلته، قبل أن يَصدر قرار بالإفراج عنه بعد سنة ونصف من السجن، وعندما أبلغه الضابط المسؤول عنه في سجن المستشفى العسكري أنه تقرر الإفراج عنه ، قال له الفريق الشاذلي إنه إذا كان القرار عفوا من الرئيس مبارك فإنه لن يطلع من السجن ويرفض عفوه، قبل أن يؤكد له الضابط أن القرار تم قانونيا بحكم حسن السيرة والسلوك . وتضيف السيدة زينات السحيمي، أكثر من ذلك فإن مبارك سعى لمدة 30 سنة، بكل الوسائل، إلى محاربة اسم الشاذلي ومنع وروده في أي جريدة أو قناة، ومنعه من حضور الأعياد الرسمية والوطنية كباقي ضباط الجيش السابقين، وتصفيته معنويا وتاريخيا، وتزييف التاريخ والحقيقة، من خلال نزع أي أثر له في الصور والمجسمات والجداريات التمثيلية الخاصة بحرب أكتوبر 1973، والمرسومة في المتحف العسكري، برغم اعتراض بعض القيادات العسكرية مثل المشير أبو غزالة، الذي اعتبر ذلك إهانة غير مقبولة، وقطع مبارك عن الشاذلي المعاش العسكري ومنحة نجمة الشرف التي يحوز الفريق عليها، قبل أن يعيدها له الجيش بعد ثورة يناير الأخيرة، ورفض أن يرد له مبارك الاعتبار حتى حصوله عليه بشكل قانوني في .2005 الأيام الأخيرة للفريق الشاذلي تقول السيدة إن الفريق الشاذلي كان في أيامه الأخيرة فخورا بالشباب المصري الذي ثار على الظلم والطغيان في 25 جانفي 2011، ولم تسعفه صحته ووعكة المرض في النزول إلى ميدان التحرير، وظل يبعث تشجيعه إلى شباب الثورة. لقد كان أكثر ارتياحا في الفترة الأخيرة قبيل وفاته، وهو يستشعر وكأنه لن يموت قبل أن يترك مصر بين يدي شبابها. في يوم جنازته كرم الجيش الفريق الشاذلي وأقام له جنازة عسكرية مهيبة سارت فيها آلاف من الناس، في بيت العزاء كانت حافلات الجيش تنقل آلاف الضباط لأداء واجب التعزية، والآلاف من التلغرافات وصلت إلى بيت العائلة من كبار قادة الجيش. وتقول السيدة ''اللهم لا شماتة، لكن الله انتقم للفريق سعد الدين الشاذلي من مبارك وعصابته أيما انتقام، فعزائي أن الملايين التي كانت في ميدان التحرير صلت عليه صلاة الجمعة الأخيرة التي تنحى فيها مبارك، في الوقت نفسه كانت هذه الملايين تدعو على مبارك بالجحيم وتتوعده بالحساب''، وتضيف ''هذه نهاية ربانية للرجل، حتى لو خطط هو نفسه لهذه النهاية ما كان ليصنعها هكذا، من قال أن يتوفى الرجل ليلة تنحي مبارك، ويدفن في يوم تنحيه، ويلقى ربه والملايين في ميدان التحرير تدعو له بالرحمة والمغفرة.. هذا عزائي، وأنا شاكرة لكل المصريين هذا الوفاء لأبطال مصر، وحتى حفيده عاد من فيتنام في يوم دفنه بالصدفة''، وتضيف أن برقية الرئيس بوتفليقة من أولى برقيات التعزية التي وصلت العائلة . بعد وفاته مازالت العائلة المكونة من بناته الثلاث، شهدان التي تتحدث باسم العائلة، وسامية المسؤولة في الجامعة الأمريكية، والابنة الصغرى ناهد، تقوم بمعركة استرداد حقوق الرجل، ورد الاعتبار له، ونجحت أولا في إلغاء الحكم العسكري الصادر في حقه عام 1983 من سجلات المحكمة كونه حكما ظالما، وأقرت المحكمة العليا بطلان هذا الحكم، كما تسعى العائلة إلى تصحيح تاريخ أكتوبر 1973 وإعادة صورة واسم وتمثال الرجل إلى كل الجداريات أو الكتابات الرسمية التي تؤرخ لهذه الحرب. وتطالب بالترخيص لتوزيع كتب الفريق الشاذلي في مصر ورفع الحظر عنها، واسترداد الوثائق والصور والكتب التي صادرها مبارك منه حين عودته من الجزائر . كما قررت العائلة رفع دعاوى ضد صحيفة ''الأهرام'' التي زورت صور غرفة عمليات حرب أكتوبر ونزعت من الصور الفريق الشاذلي ووضعت مكانه مبارك. غلبتني الدموع وأنا أجلس بين يدي امرأة لم يرحمها، وزوجها، السادات ولم يشفع مبارك لتاريخ زوجها الحافل . حمّلتني السيدة زينات السحيمي أمانة أن أسلم على الجزائر وكل الجزائريين، وخصت بالذكر عائلة المرحوم العربي بلخير، ووزير الخارجية السابق الأخضر الابراهيمي، والوزير السابق محي الدين عميمور، والدكتور عثمان سعدي وعبير سعدي، وجويدة بلخوجة، وجميلة برحال، وعائلة الحاج يعلى، وكثيرون لم يسعفها المرض في تذكرهم... قبّلتها على رأسها وغادرت المكان الذي خرجت منه جنازة الفريق سعد الدين الشاذلي إلى جوار ربه.