ينبغي أن ننتبه أن مجتمعاتنا في حاجة ماسّة وعاجلة لثورات متتالية تمس كل مناحي حياتنا. لهذا لا بد من القول أن الحالة ''الثورية'' التي تمّت في عدد من المجتمعات العربية قد لا تتحول بالضرورة لحالة سياسية. لماذا؟ هناك عوامل عديدة قد تقف في وجهها، منها بالخصوص غياب ما أسماه فرانسيس فوكوياما ''المعرفة القابلة للاستخدام''، خاصّة في مجال قيادة التغيير وبناء الدولة ووضع ترتيب مؤسساتي لها. وفعلا فالنخب العربية وبسبب ما يقرب من قرن من الحكم الأحادي لم تجرّب وضع دساتير تقوم على الفصل بين السلطات، وعلى توزيع فاعل للسلطات بين التنفيذي والتشريعي بالخصوص. أكثر من هذا ينبغي أن نلاحظ أن التغيير عن طريق الدساتير ليس نهائيا وليس مضمونا والدليل ما حدث في الجزائر. إن التغيير الوحيد الذي يحدث القطيعة النهائية مع عصور الانحطاط هو التغيير بل الثورة في التعليم. لقد كانت الثورة الحقيقية في فرنسا، وصول نضال جول فيري في نهاية القرن التاسع عشر إلى غايته في جعل رقي شعبه يقوم على التعليم المجاني والإجباري، وعلى تكافؤ الفرص بين أبناء كل المواطنين. ويذكرني الاستشهاد بجول فيري، أننا لم نأخذ من الثقافة الفرنسية إلا وجهها الكولونيالي الاستعماري الرديء الظالم والبائس. في حين كان الأجدى لكل العاشقين الولهانين بفرنسا وثقافتها، أن يأخذوا منها ثقافة الدولة وحقوق الإنسان وتمجيد المواطن وحمايته من كل تعسف سلطوي أو مادي، وأن يأخذوا منها العدل والعدالة، وأن يأخذوا منها تقديس العلم والعلماء لا تقنيات القهر والتسلّط وجعل المواطن متّهم حتى يثبت براءته، كل يوم وأمام كل إدارة وكل رجل أمن. إن الثورة الحقيقية تبدأ من التعليم وليس بالضرورة من الدساتير، ولكن من غير وجود أنماط تفكير جديدة، ومن غير وجود حرية للاضطلاع بهذه الثورة الحقيقية، ومن دون القدرة على قيادة هذه الثورة لا يمكن أن نطمح في تغيير حقيقي. اليوم والشعوب العربية تحاول إعادة تحريك التاريخ الراكد منذ قرون، نرى شيئا فشيئا عمق بؤسنا وبؤس دولنا، وحتى بؤس نخبنا الرّثة معرفيا. إن التغيير الأكيد، لا بد أن يبدأ من إعادة بناء المنظومات التربوية. إن هناك كارثة بأتمّ معنى الكلمة، وقد تم التلاعب في أغلب البلدان العربية بأجيال كاملة. إن جامعاتنا تخرج أجيالا قليلة التحصيل العلمي ومن دون تحصيل معرفي يذكر تقريبا. المسألة الأخرى وهي وسط بين هذا وذاك وهي محاولة ترميم ما أفسده الحكام المتسلطون الجهلة، والترميم يعني قيام فعل إرادي عاجل، من أجل تجنيد ما أمكن من الذكاء الموجود في المجتمعات العربية، من أجل التأسيس لمنظومات تربوية جديدة في أقرب الآجال. قد يعتبر البعض هذا تفاؤلا ويعتبره البعض الآخر تشاؤما، لكنها نقطة البداية. ينبغي التخلي عن تلك ''الوطنية الساذجة'' التي تجعل مثلا جزأرة تأطير التعليم وخاصة التعليم العالي غاية وطنية ودليل قدرة واستقلال. إذا كانت الدول الكبرى تعمل على ''شراء الكفاءات'' واستقطابها ومنحها من الامتيازات الشيء الكثير، أليس أحرى ببلد متخلف وتعاني منظومته التربوية من الرداءة وإعادة إنتاج الرداءة، منح طلبته ما أمكن من جودة واستقطاب الكفاءات العربية وغير العربية؟ أما من ناحية التأسيس المنهجي للقدرة على التفكير، فلو كانت لدي سلطة لقرّرت جعل تدريس ابن رشد وابن خلدون مادّة أساسية لجميع التخصصات. فالبداية من هناك. نعم هناك الرشدية ''اللاتينية'' والتي استلهمت عقلانيتها ووطنيتها في ثقافتها وطوّعتها لخدمة مستلزمات نهضتها وهناك الرشدية التي ينبغي أن نستلهمها نحن من جديد في محاولة الوصول إلى منهجية جديدة لمقاربة الكثير من شؤوننا. أما الخلدونية فهي تمكّننا، ليس فقط من إعادة اكتشاف أنفسنا، بل تضعنا منهجيا في استعداد معرفي لإدراك منطلقات جوهرية في وضع أسس النهضة الجديدة. ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل مونتسكيو وروسو وباريتو وتالكوت بيرسنز وديفيد ايستن وغيرهم، ولكن يعني وضع هذه المعرفة كلّها في إطار منهجي قابل للاستخدام والتحوّل لرؤية منهجية عملية للبناء. من دون حدوث هذه الثورة في منظومات التعليم، فإن كل سلطة تستطيع إعادة إنتاج النظام القائم ومنطقه، والعلاقة نفسها بين البُنى الفوقية والبُنى التحية بين النّاس والسلطة. [email protected]