خلافا لاعتقاد بعض الناس النائمين في العسل، كما يقول نجيب محفوظ، والراضين باعتقاداتهم الموروثة كما هي، كان يجب أن يدور نقاش حول طبيعة الحقبة العثمانية في الجزائر منذ عدة سنوات، لقول الحقائق وإزالة الزائف من الأفكار، حتى لا يصبح محتوى ما نؤمن به ونعرفه مجرد قناعات راسخة، بشكل يغلب عليه الاعتقاد غير المؤسس على معرفة صائبة، مما يؤدي إلى تكوين التعصب والنأي عن الموضوعية، والنظر إلى التاريخ مثلما ننظر إلى المعتقدات والإيديولوجيات. فكل الحقب التي عرفتها الجزائر قابلة للنقاش، بما في ذلك الحقبة العثمانية. وكان لابد أن يفتح الكتّاب والمؤرخين هذه المرحلة لمناقشتها وتحليلها، حتى تتكون لدينا نظرة وطنية لتاريخنا، تبتعد عن المصادر الفرنسية التي ترى في الحقبة العثمانية مرحلة سوداء، تجسد من خلالها كل الاستبداد الشرقي الفظيع، كما نبتعد عن نظرة ''كتاب الغزوات'' التركي الذي يمجد الوجود العثماني، ويعتبره هو الخلاص، والمنقذ، وكل شيء. علينا أن نتوصل إلى إيجاد مرحلة نصنعها نحن، فالتاريخ هو مصيرنا، نصنعه بما لدينا من أفكار وقناعات وتصورات. لقد فسر هيغل مسألة التاريخ وفق هذا التصور، وربط بين الحداثة والتاريخ. لكن هذا لم يحدث عندنا، بقي التاريخ يراوح مكانه، وتحول إلى منبر للصراع السياسي والإيديولوجي. وكل الحقب التاريخية اتسمت بالغموض، إضافة طبعا إلى تفضيل حقب على أخرى. النقاش بخصوص الحقبة العثمانية ضروري، وبسبب غيابه جاء تصريح الأوساط السياسية عندنا بخصوص الوجود التركي في الجزائر، في شكل صدمة تلقاها عامة الناس والنخب، على حد سواء، بكثير من الحساسية. وأجد نفسي اليوم وقد تكونت لدي هذه القناعة، وهي أن السياسي أكثر قدرة على فتح النقاشات مقارنة بالمثقف الغائب والمختبئ في المؤسسة الجامعية، أو في ثنايا كتابات لا تمت بصلة للواقع، ولا تستجيب لتطلعات المجتمع. لا يهم وقع هذه المقولة الصارمة، من طراز ''الوجود التركي في الجزائر كان دخيلا''، على النفوس، المهم هو أنه حان الوقت لكي نفتح نقاشا آخر، دون لف ولا دوران. والمؤرخون هم المطالبون بفتح هذا النقاش قبل السياسي، فهم أصحاب القدرة المعرفية، وهم الأوفر حظا لتجنب التعصب والوقع الصدامي، الذي يجعل الأفكار تمور في الداخل ولا تخرج إلى ساحة النقاش. فالسياسي، في كثير من الأحيان، تقع أفكاره وقعا قاسيا، يصاحبها الخوف والفزع من الاقتراب منها، على خلاف أفكار المؤرخ أو الكاتب أو المثقف بصفة عامة، التي تبقى في مرتبة الأفكار، لأنها لا تحتوي على أي صفة أخرى غير صفة الحقيقة التاريخية القابلة للنقاش بدورها، لتجنب سياج الدوغمائية المغلق. أعتقد أننا ندفع اليوم ثمن انغلاق المؤسسة الجامعية على نفسها، وعدم قدرتها على مسايرة نقاشات المجتمع المدني، الذي أضحى أكثر تطورا منها، وأكثر رغبة في أن يكون النقاش حاضرا كجزء من مسار التحول الحالي. لكن الجامعة ترفض الاستماع للأجراس التي تدق، وهي جزء من تكلس يصنع الصمت، ويغذي التعصب الناتج عن الجهل بحقائق التاريخ، في خضم التحولات التي يعرفها العالم اليوم، يجب أن يبرز دور الجامعة، ولا بد أن يكتسب المؤرخ وعيا بضرورة توجيه الخطاب للناس في مثل هذه الحالات التاريخية الحاسمة. عليهم أن ينيروا الدروب، ويفككوا الألغاز العالقة والتي تنتظر الأجوبة. هم من يجب أن يقدم الأجوبة، وليس الساسة، حتى وإن قال هؤلاء الحقيقة. وبخصوص العثمانيين نجد أن ما قاله رئيس الحكومة مؤخرا، قد سبقه إليه مؤرخ كبير هو الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه الضخم ''تاريخ الجزائر الثقافي''، فرأى فيهم مؤسسين لحقبة مظلمة من تاريخنا. يقول الدكتور سعد الله، في الصفحة 14 من الجزء الأول من كتابه، إن الجزائر حظها سيئ، لأنها شهدت دخول ''أعلاج متتركين''، فعانى منهم الشعب الجزائري. ويصفهم بأنهم ''جهلة لا يعرفون حتى القراءة والكتابة، كما كانوا مغامرين لا فائدة لهم من الحكم إلا جمع المال والتسلط. ثم أنهم كانوا يحكمون الجزائريين بيد من حديد ويسلبونهم أموالهم وثرواتهم عن طريق الضرائب والرشي والهدايا ونحوها''. أعلم أن مثل هذا الكلام يقض مضجع الذين ينظرون إلى التاريخ من زاوية العاطفة، ويفضلون كتابات المؤرخين المناضلين، أمثال توفيق المدني ومولود قاسم، لأنه يتركهم في سباتهم، ولا يخلخل معتقداتهم.