خرجت منذ يومين باستنتاج غريب بعد أن فرغت من قراءة كتاب ''حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا''. شعرت أن مؤلفه الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله، يميل للعثمانيين إلى حد تزييف الحقائق، فوجدت أنه يبجل عُرُوجْ (وليس عَرُوجْ)، معتبرا إياه مخلّصا ومحررا، بينما يُظهر ملك الجزائر سليم التومي (ويسميه سالم)، في صورة حاكم مستبد بأهالي الجزائر ومتواطئ مع الغزاة الإسبان. ويبدو لي أن توفيق المدني وقع تحت تأثير العقلية الإفريقية الشمالية التي طالما رحبت بالأجنبي من أجل التخلص من عنف السلطة المحلية التي ينظر إليها غالبا كسلطة ديكتاتورية. ورغم أنه لا يوجد بحوزة المؤرخين إلى غاية اليوم شيء يذكر بخصوص استبداد سليم التومي الذي يزعمه المدني، يبقى الأمر مؤسفا حقا أن نقرأ مثل هذا الكلام الذي يقلّل من شأن أحد ملوك الجزائر، ويرفع في المقابل من شأن بحار تركي جاء الجزائر منقذا وتحوّل إلى حاكم لها. وبعد أن قدّم لنا توفيق المدني، سليم التومي في صورة الحاكم الذي استنجد بالأتراك لتخليص الجزائر من خطر الإسبان المحدق بها منذ سنة 1510، بعد أن شيّدوا الحصن الشهير باسم ''البينيون''، واستضافته في قصره بأعالي القصبة، نجد أن الصورة سرعان ما تتغير لدى المدني، بحيث قدم التومي في صورة الملك ''المستبد'' المتواطئ مع الإسبان. ويعترف المدني أن عُرُوجْ أمر بقتل التومي حتى يوقف دسائسه ويضع حدا لما يسميه تعامله مع الاسبان، فكيف يعقل أن تبرز شخصية ملك لدى مؤرخ مرموق مثل توفيق المدني، وفق منحى متناقض. ففي البداية كان الملك سببا في استدعاء عُرُوجْ طلبا للنجدة، وكان هو الذي استضافه في قصره مدة ستة أشهر كاملة، لتتحول الصورة فجأة إلى صورة سلبية، وتصبح مرادفة للخيانة. أليس من حق سليم التومي تغيير نظرته لعُرُوجْ بعد أن أبدى ميول سياسية، وأظهر رغبته في الاستيلاء على السلطة في الجزائر؟ ولماذا لم يتوقف عُروُجْ عند حدوده ويبقي السلطة في يد أهلها من أبناء الإيالة بعد أن خلّصهم من الغزاة؟ لماذا أخلط بين الواجب الديني المقدس (دحر الإسبان وطردهم) والواجب السياسي (تعيينه أميرا للجهاد، واستغلال المقدس لأغراض سياسية)؟ ولماذا لم يدقق توفيق المدني في هذه المسائل حتى يتخلص من النزعة الشوفينية التي تمجّد الأجنبي الذي تغلغل في صفوف الجسد السياسي المحلي تغلغلا دينيا. علما أنه لا يوجد ما يبرر استمرار التغلغل الديني لأن ديانة التومي كانت الإسلام، وليست المسيحية مثلا حتى يتم تجريده من السلطة. فالخلاف دار بين ملك يريد الاحتفاظ بملكه، وقائد بحرية تركي يريد الاستيلاء عليه، لكن ميل توفيق المدني للأتراك جعله يقدّم لنا تاريخا موجها. تذكرت، وأنا أقرأ موقف توفيق المدني من الأتراك وملك الجزائر سليم التومي ذلك النقاش الذي جرى في مطلع الثمانينيات بين محفوظ قداش (المؤرخ) ومولود قاسم نايت بلقاسم (صانع الأيديولوجية) بخصوص طبيعة الوجود العثماني في الجزائر. دافع قداش عن الفكرة القائلة بأن العثمانيين استولوا على السلطة في الجزائر. بينما رأى مولود قاسم عكس ذلك تماما. وكتب كلاهما مقالات طويلة عريضة نشرتها الصحافة الوطنية آنذاك. ويقال أن مولود قاسم أفضى لمقربيه معترف أن عُرُوجْ استولى على السلطة بعد اغتيال سليم التومي. واعترف كذلك أن وجودهم في الجزائر كان وجودا دخيلا، لكنه يرفض التصريح بذلك علنا، ففي حال الاعتراف بهذه الحقيقة التاريخية، فذلك يعني أن الفرنسيين جاؤوا لكي يخلّصوا الجزائريين فعلا من ''استعمار الدولة العثمانية'' كما يدّعون، فطرح القضية بمناورة وراح يدافع عن طرح يعارض الطرح الفرنسي. ففضل الحديث من زاوية أيديولوجية تعبر عن توجهات السلطة التي كان يمثلها. وإذا كان من حق مولود قاسم أن يتناول المسألة من زاوية سياسية وأيديولوجية، فإنه لا يحق لمؤرخ مثل توفيق المدني أن يقدم قراءة متعاطفة مع الأتراك، ويقول لنا أن هذا عبارة عن تاريخ. [email protected]