ما الذي يجعل البرلمان محل أنظار وأطماع أصحاب ''الشكارة'' والمقاولين والمستوردين والبطالين والموظفين والنقابيين والرياضيين والملتحين وتاركي الصلاة؟ هل الراتب وراء المهرولين بشكل غير مسبوق للظفر بمقعد في البرلمان؟ أم الحصانة؟ أم الراحة والبزنس؟ هذه الأسباب مجتمعة تعطي لوحدها مؤشرا أن ما يسمى ب''الاستحقاق'' الانتخابي تطرح بشأنه العديد من نقاط الظل التي جعلت البرلمان ينظر إليه في الشارع بعدة نظرات، ما عدا أنه وجد لخدمة مصالح الشعب وتبني مطالبه وانشغالاته. حتى المرشحون لا يخفون ذلك، ويقولون إنهم يسعون للفوز بثقة الناخبين لتحسين وضعهم الاجتماعي، أو للقفز في سلم السلطة والمسؤولية، أو ليكونوا من أصحاب ''دعه يعمل دعه يمر''، ولا يفكرون في وجود شيء اسمه الشعب إلا في موعد الانتخابات. مقاعد محدودة يقابلها عشرات القوائم للمرشحين بالولايات موسم الهرولة إلى شارع زيغوت يوسف بنفس السرعة القياسية التي رفعت بها السلطة عدد مقاعد المجلس الشعبي الوطني من 389 إلى 462، بنفس الهرولة بدأت تتهاطل عشرات القوائم الانتخابية للأحزاب، ومثلها للأحرار، إلى درجة أن عدد المرشحين قد يقارب العدد الفعلي للمصوّتين يوم 10 ماي المقبل، في ظل تعاظم ما يسمى ب''العزوف'' الانتخابي. لا فرق بين العاصمة التي تملك أكبر حصة من مقاعد البرلمان، أو سطيف التي تليها من حيث الوعاء الانتخابي، أو إليزي التي تأتي في المراتب الأخيرة، لأن عدد قوائم الراغبين في الترشح للتشريعيات المقبلة يكاد يكون هو نفسه، وبمعدل يتراوح بين 20 و50 قائمة للأحزاب والأحرار في الدائرة الانتخابية الواحدة. صحيح أن أحزابا جديدة حصلت على الاعتماد مؤخرا، زيادة على 26 حزبا كان موجودا في السابق، قد دخلت معركة التشريعيات، لكن ذلك لا يبرر هذا الكم الهائل من قوائم المرشحين الذين يريدون تجريب ''الحظ'' للظفر بمقعد من مجموع ال462 التي سيتشكل منها، لأول مرة، المجلس الشعبي الوطني منذ نشأته. قد تكون هذه الزيادة في عدد المقاعد، خصوصا في الولايات التي كانت حصتها لا تتعدى 4 مقاعد، قد فتحت ''الشهية'' لدى بعض المترشحين المتردّدين، خصوصا من الأحرار، وقد يكون الراتب المغري الذي يتقاضاه ''ممثل الشعب'' بجلوسه تحت قبة شارع زيغوت يوسف، قد فعلت فعلتها في النفوس، خصوصا من أصحاب ''الشهرية'' البائسة، وقد تكون ''الحصانة'' وراء الاكتساح الممارس من قبل رجال الأعمال والمقاولين و''البزناسية'' وأصحاب ''الشكارة'' على قوائم الأحزاب الصغيرة والكبيرة، لتفادي المشاكل مع الضرائب غير المدفوعة أو لكسب صفقات جديدة من خلال النيابة. غير أنه رغم أهمية هذه الدوافع والمبرّرات التي يختفي وراءها المتسابقون لدخول الهيئة التشريعية، إلا أنها تبقى مبرّرات غير كافية لتفسير هذا التدافع غير المسبوق لدخول البرلمان. ويفسر المراقبون هذه الحمى التي سكنت قلوب الكثيرين من الطامحين للإقامة في شارع زيغوت يوسف، بكون البرلمان لم يعد ذلك الحصن الذي تعالج فيه قضايا الشعب، وتراقب فيه ميزانيات الدولة من المال العام، وأيضا لم يعد حكرا على الراسخين في أمور التشريع والقانون، ولم يعد موطنا للكفاءات السياسية والحزبية، المشهود لها بالاستقامة والنظافة وخدمة الصالح العام، بقدر ما غزته الرداءة والشيخوخة، وهو ما جعل كل الناس ترى نفسها أحق بتمثيل الشعب في البرلمان. معارك وانقلابات في الأحزاب وتجوال سياسي و''شكارة'' من أجل الترشح البرلمان تحوّل من هيئة تشريعية إلى ناد للتشغيل بأجور مغرية لم يسلم أي حزب، كبيرا أو صغيرا، من وقوع انقلابات بداخله أو استقالات فردية وجماعية أو هجرة نحو أحزاب أخرى، على خلفية إعداد قوائم المرشحين للانتخابات البرلمانية. الكل يريد الترشح بأي وسيلة كانت، لأن لا أحد من هؤلاء جميعا يكلف نفسه عناء السؤال: أي نائب نريد؟ وما هو نوع البرلمان الذي يجب انتخابه؟ يعيش رؤساء وقيادات الأحزاب السياسية على الأعصاب مع اقتراب أي موعد انتخابي، ليس بسبب تحضير البرنامج الانتخابي، ولا بشأن كيفية تسيير الحملة الانتخابية، وما الذي يقال فيها من وعود، وما الذي لا يتحدث عنه بصيغة مقصودة؟ وإنما حرق الأعصاب مردّه إلى ترتيب المرشحين في القوائم الانتخابية، وهو لم يكن ليطرح في النظام الانتخابي بالقائمة المطلقة، لكن في النظام النسبي، فوز أي حزب يكون محصورا في متصدر القائمة للدخول إلى البرلمان، بينما بقية المرشحين هم للزينة والديكور فقط. لكن مع ذلك، بإمكان الأحزاب أن تضع شروطا للترشح، شفافة ومقبولة من طرف مناضليها، غير أن أسبقية ''الجهاز'' الحزبي على ''القاعدة''، جعل قيادات الأحزاب تلجأ إلى عملية ''إنزال'' المرشحين ب''البراشوت''، ولا يهم إن كان مناضلا قديما أو كفاءة علمية أو مقبولا شعبيا، بل تتحكم القرابة والمحسوبية و''الشكارة'' في عملية ''تخياط'' القوائم النهائية. ومادام لا أحد يسأل عن ''نوعية'' البرلمان الذي تحتاجه البلاد، فإن الأحزاب، وحتى الأحرار، لا يتوقفون طويلا في عملية البحث عن المرشح الكفء والمناسب لدخول البرلمان المطلوب شعبيا، والذي تحتاجه الجزائر ''استراتيجيا''، والذي بإمكانه أن يؤطر انشغالات ومطالب المواطنين ''تشريعيا''. ومن هذا المنطلق، فإن البرلمان بمثل هذا التصور الموجود لدى الأحزاب في اختيار مرشحيها، أبعد ما يكون عن انتخاب سلطة تشريعية أو حتى هيئة تشريعية، بقدر ما هو مجرد مشروع لتوزيع عقود تشغيل لمدة 5 سنوات بأجور مغرية. والغريب في الأمر أن مناسبة الانتخابات من المفروض أن تشكل محطة للأحزاب لتجنيد وعائها الانتخابي ولمّ شمل مناضليها، وهو أمر نادر الوجود، لأن ما يجري في الميدان هو تسجيل مئات الانقلابات داخل الأحزاب يوميا، ومثلها من الاستقالات الفردية والجماعية وضعفها من الاتهامات. ولم يعد لا بيان أول نوفمبر الذي اعتمدته كمرجعية لمناضليها جامعا لها، ولا الإسلام حاميا لها من انشقاقاتها، ولا الديمقراطية طريقا في ممارستها السياسية، وتتحوّل هذه الأحزاب إلى ما يشبه شركة أسهم تبرم صفقات وجسر يوصل أناسا إلى البرلمان، لا علاقة لهم بالتشريع ولا بالدفاع عن قضايا المواطنين ولا بمراقبة المال ولا بمحاسبة الجهاز التنفيذي، بدليل أن هناك عشرات النواب لم يسمع لهم صوت أو تدخل طيلة 5 سنوات من عمر العهدة البرلمانية. عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورفلة بوحنية قوي ''الناخب الجزائري لا يمكن استغباؤه لأنه يعرف الغث من السمين'' برأيك، لماذا هذا الهوس للترشح للبرلمان، هل هو البحث عن الحصانة أم المال؟ يجب أن نعترف، بداية، بأن القوانين تتيح للمواطنين المتمتعين بالرشد والمستوفين للشروط القانونية الحق في الترشح للانتخابات، بغض النظر عن خلفياتهم التعليمية وتوجهاتهم العملياتية، سواء أكانت اقتصادية أو فنية أو دينية أو علمية، وسواء كانوا رجال أعمال أو نجوما رياضية. فصفة المواطنة ولوازمها هي الأساس في الترشح والممارسة السياسية، ومن ثمة لا مانع في ممارسة العملية السياسية لهذه الفئات، مادامت تقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية، ولا يتواجد في رصيدها الشخصي ما يخرق ويمس النظام العام. إن الترشح للانتخابات بهذا المعنى ملمح إيجابي، إذا كان حاملا لمشاريع وبرامج ترقى بالممارسة التشريعية. لكن الهوس للترشح يؤكد، من ناحية أخرى، سوء فهم لدى الكثيرين للعملية الانتخابية والبرلمانية وسوء تقدير لأحجامهم الحقيقية. فالعملية السياسية ليست البرلمان فقط، وإنما تتجاوز السياسة قبة البرلمان، لتشمل ممارسة فن التدبير للحياة اليومية بجميع أبعادها، وترتبط بتطوير وترشيد الممارسة السياسية وترقية حياة المواطن. البرلمان المقبل مدعو لمناقشة الدستور الجديد. هل تتوقع أن تقدم الأحزاب مرشحين يملكون القدرة على فهم هذا الرهان؟ من المهم النظر إلى القضية من زوايا متشابكة وموضوعية. فالناخب الجزائري ليس غبيا، ولا يمكن لأحد استغباؤه، وهو الذي عايش محطات انتخابية كثيرة، عرف فيها الغث من السمين، وخلص الجميع إلى نتيجة مفادها أن الساحة السياسية الجزائرية تبحث عن المصداقية، وهذه الأخيرة مرتبطة بالمصداقية في الأشخاص والمصداقية في البرامج. وإذا استطاع المترشح، بغض النظر عن خلفياته، إقناع الناخبين، فهنيئا له. ولكنه حتما سيضع نفسه على محك المتابعة والنقد، وكثير من المترشحين من احترقوا سياسيا قبل أن يطرقوا أبواب البرلمان. شخصيا، أعتقد أن الساحة السياسية وسوق الترشيحات ستشمل بالتأكيد أسماء بإمكانها أن تناقش وتسهم في مناقشة القضايا الاستراتيجية، ومنها الدستور الجديد. وقد لاحظنا أن كثيرا من المشاريع الإصلاحية تمت مناقشتها ورأت النور في العهدات البرلمانية السابقة في البرلمان بغرفتيه. تجتهد السلطة في تقديم الضمانات لتنظيم انتخابات نزيهة، ما تفسيرك للآليات واللجان الكثيرة التي أنشأتها السلطة؟ هل هي كافية لضمان انتخابات نظيفة؟ اللجان التنظيمية مهمة، ولكن الأهم هو الحرص من طرف مختلف الفاعلين المساهمين في العملية الانتخابية على تحمل مسؤولياتهم، بالتواجد والسهر على شفافية القوائم الانتخابية والترشيحات وشفافية الممارسة الاقتراعية، لضمان القيام بعمل احترافي، يتناسب مع هذا الموعد الانتخابي المفصلي. حاوره حميد يس برلمانية التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ليلى حاج أعراب ''رجال المال سيستغلون الحصانة والبرلمان لصالح شركاتهم'' يتخوّف الكثير من ظاهرة المال السياسي وتأثيرها على توجهات الناخبين. هل تشاطرين هذا التخوّف؟ ليس هناك قانون يمنع المال السياسي. وحتى إن كان هناك قانون، فإن السلطة ستغض البصر عن هذا النوع من المرشحين من بين المقاولين ورجال المال والأعمال الذين هم في الحقيقة من زبائنها السياسيين، لأنها تحتاج إليهم في كل موعد أو استحقاق سياسي، السلطة في الجزائر خلقت وضعية استغلال متبادل مع رجال المال، وهي المسؤولة عن هذه الوضعية التي وصلنا إليها، وضعية اللاقانون التي تقود إلى منطق الغاب. النظام قائم على الزبائنية والعمالة، خاصة في مجال المال، هذا أمر خطير وضد الديمقراطية، وسيقودنا إلى مرحلة أكثر خطورة. برأيك، ما دوافع ترشح رجال المال والمقاولين؟ هناك من يطمع في التقرب من السلطة، هناك من المقاولين من يضع أموالهم في خدمة السلطة في مواعيد واستحقاقات سياسية، وعندما يحين موعد الانتخابات، يطمعون في الاقتراب من السلطة بسوء نية، للأسف، للحصول على الامتيازات والمكاسب وللاستعمال المغرض للحصانة البرلمانية. المقاولون وأصحاب المال يستعملون المال للحصول على النيابة البرلمانية، وهذا يقرّبهم من مواقع السلطة للحصول على مشاريع لصالح شركاتهم أو مقرّبيهم، وليس سعيا لخدمة الشعب والبلاد، وقد رأينا مقاولين ورجال المال يدفعون أكثر مما يمكن أن يحصلوا عليه من المرتبات في البرلمان. إذن، همهم ليس عائدات تعويضات النائب، ولكن يسعون إلى الحصانة والامتيازات والمكاسب والعلاقات الملتوية. ما هي مخاطر تغلغل رجال المال والمقاولين في البرلمان؟ هناك مجموعات ضغط وزمر خاصة في السلطة، وهم من يحاولون التحكم في القوانين عبر التشريع لأوضاع خاصة. في كل الدول المحترمة، القانون عام، ولا يشرّع لحالة أو حالات خاصة، لكن في الجزائر، يحدث ذلك لتسوية أوضاع جماعة أو زمرة معينة، مثلما حدث في قانون تسوية البناءات غير الشرعية. هذا نوع من القوانين التي يشرّعها البرلمان بضغط من الزمر ورجال المال والمختلسين لصالحهم، وهكذا يصبح البرلمان في خدمة مجموعات وليس في خدمة الشعب، لأنني لا أعتقد أن مقاولا يترشح للبرلمان طمعا في المرتب. الجزائر: حاورها عثمان لحياني