شتان بين الصورة التي يظهر بها المهاجرون الجزائريون، أو ''ليزيميفري'' بالتعبير الدارج، عندما يحلون كل صيف على أرض الوطن، فتبهر تلك الصورة الشباب وحتى العجائز، وبين الحياة التي يعيشونها حقيقة في بلاد الغربة، المليئة بالمآسي والخيبات الاجتماعية. النهاية المأساوية للشاب محمد مراح هي في الواقع مثال عن فشل واحدة من العائلات الجزائرية المهاجرة في الاندماج داخل النسيج المجتمعي الفرنسي، سواء بدوافع شخصية أو لأسباب تتعلق بسياسة الاندماج التي تتبعها الدولة الفرنسية تجاه المهاجرين. وبلغة بسيطة جدا، هناك الآلاف من الشباب، مثل محمد مراح، يعيشون الضياع في المجتمع الفرنسي، لم يستطيعوا الخروج من ''الغيتوهات'' التي خصصتها السلطات الفرنسية للعائلات المهاجرة ذات الأصول المغاربية والعربية، وبوجه أخص الجزائريون الذين يشكلون أغلبية المهاجرين العرب في فرنسا. الخوف يسيطر على محيط الشقة التي قتل فيها مراح لا تحتاج لجهد كبير كي تعرف أين يعيش الجزائريون في مدينة تولوز، هذه المدينة الجميلة والنظيفة. فعندما تنزل في مطار تولوز أو في محطة قطارات ''ماتابيو'' بوسط المدينة، يدلك أي شخص على المكان، وقد يتصادف أن يكون هذا الشخص جزائريا، ليقول لك ''إنهم موجودون في ميراي الكبرى، أو راينيري، أو بافاتال، أو بال فونتان، أو ليزيزار''. ولا ينسى هذا الشخص مثلا تنبيهك إلى أنك تقصد مكانا يصنف ضمن ''الأماكن الساخنة'' في تولوز، ويستدرك بقوله: ''لكن أنت جزائري، ولا خوف عليك، فلن يعتدوا عليك''. هكذا كانت أول مشاهداتي بعد وصولي إلى تولوز للتحقيق في قضية مقتل الشاب محمد مراح، وطبعا كان مجرد الحديث عن هذا الأمر مع الناس في تولوز يثير الخوف، لأن المدينة لم تعهد مثل هذه الحادثة من قبل، ولم تعهد أيضا حالة تأهب أمني كتلك التي شهدتها أيام محاصرة شقة مراح في حي ''كوت بافي'' الراقي. ولكنني كنت مجبرا، منذ البداية، على ذكر اسم مراح، حتى أستدل على أقرب مكان يمكنني العثور فيه على أقاربه، فكان من حظي أن وجدت جزائريا يعمل في فندق يقع وسط المدينة، غير بعيد عن محطة ''مارينغو''، دلني على الشقة التي قتل فيها محمد مراح. وفي الطريق أخبرني السائق بأنه ''غير مقتنع بالمرة برواية الشرطة حول الموضوع، لأنه كان بالإمكان القبض على محمد حيا، ولكنها فضلت قتله، وهذا يعني وجود مشكلة ما''، على حد قوله. ولم أنتبه إلا وأنا بمحاذاة الشقة الشهيرة في العمارة رقم 17 بشارع سارجون فينيي. شاهدت بالمكان وجوها ''صفراء'' من الخوف، وجوها تتفرج على الشقة وتحاول استعادة مشاهد التلفزيونات التي كانت تظهر على شاشاتها سيارات الشرطة تحاصر المكان وتمنع ظهور أي شيء. شاهدت سكان العمارة يهرولون دخولا وخروجا، ويتحاشون الصحفيين، فقد شبعوا منهم ومن كاميراتهم وأسئلتهم، وأنا واحد منهم. ولهذا لم أشأ إطالة المقام. فحقيقة هناك بعض الخوف حتى مع انتهاء ''معركة الشرطة مع مراح''، وهناك أيضا شعور بأن ''سكان العمارة والحي لا يستلطفون الزوار''. وبدا لي أن القصة موجودة في مكان آخر، هناك في الأحياء العربية، حيث يوجد الجزائريون. ولهذا قصدت أول ما قصدت بالميترو ضاحية ''راينيري''. وعندما وصلت أحسست بأنني لم أغادر الجزائر إطلاقا، فبمجرد خروجي من الميترو سمعت شبابا يتحدثون فيما بينهم، أحدهم يقول للآخر ''واه واه.. راك عارف كي داير''، وفهمت للتو أنهم جزائريون ومن غرب البلاد تحديدا يتحدثون عن زائر جديد من العائلة. وفي ضاحية ''راينيري'' مثلا، توجد عمارات كثيرة تقطنها اليوم عائلات جزائرية في الغالب، ويعيش معهم بعض السود وبعض العرب، بينما انسحب الفرنسيون منذ زمان بسبب المشاكل التي تحدث بين الحين والآخر. ويقول سكان الحي إن ''السلطات تتعمد وضع المهاجرين في أحياء محددة حتى تسهل عليها مراقبتها''، بينما يشتكي الفرنسيون من ''استفحال الإجرام في أحياء العرب وخصوصا عند الجزائريين''. واللافت في ضاحيتي راينيري وبافاتال، هو تلك الأجواء الجزائرية الخالصة، فهناك مطاعم تقدم اللوبيا والعدس، كما هو الشأن مع محل رشيد، هذا الشاب العاصمي ذو الأصول البوسعادية، وهناك طاكسيفون ''الحاج'' القادم من مستغانم أو غليزان. وهناك ''طابلات دخان'' لكنها مخبأة داخل السيارات خوفا من الشرطة. وهناك جمهور عريض ل''الشمة'' أيضا. وتكاد تنسى أنك في تولوز، لولا مرور سيارات الشرطة الفرنسية التي لا تجرؤ على التوقف في حي راينيري، ولولا عملة الأورو لاعتقدت أنني في ساحة الشهداء بالعاصمة، خصوصا يوم الخميس، حيث يقام السوق الأسبوعي ويصطف الجزائريون لبيع سلع لا تختلف عن أسواق الجزائر في شيء، حيث يعرض فيها حتى الشيفون. ويكفي أن تجلس مع مهاجر، كبيرا كان أو صغيرا في السن، حتى يبدأ في الشكوى من مصاعب الحياة، حيث أن أغلبهم هنا في الأحياء العربية المنتشرة في ضواحي المدن، لا يعملون، ويعيشون بفضل المساعدات الاجتماعية، ومصروف التأمين على البطالة الذي يتراوح بين 600 و1000 أورو شهريا، باختلاف الحالة. بل هناك من يقول إنه يفضل البطالة على العمل، لأن العمل يجرّ معه الضرائب و''وجع الراس''، والنتيجة هي تجمع المهاجرين من كل الأعمار، كل صباح، عند مداخل الأحياء العربية، يرتشفون القهوة ويتحدثون عن أحوال الجزائر، ولا تربطهم بفرنسا سوى ''الخدمة الاجتماعية'' والبطاقة الطبية''.. مراح ضحية الطلاق..''أم المآسي'' الاجتماعية ومن بين مآسي المهاجرين الجزائريين التي لا تظهر للعلن إلا عندما تعيش بينهم، يمكن الوقوف على ''أم المآسي'' وهو الطلاق، الذي يعاني منه أغلب الجزائريين، على الأقل الذين التقيتهم هنا في تولوز. والسبب هو عدم التوافق بين الزوجين، الناتج أصلا عن زواج المصلحة، وهذا يعني زواجا من أجل تسوية أوراق الإقامة، فيكون الطلاق مع أول ''كف'' تأخذه المرأة على وجهها إذا خرجت عن الطاعة، ومع أول ليلة يبيتها الرجل في السجن، عقابا له على ضرب زوجته. لكن بعد ماذا؟ بعد ولادة أطفال مثل محمد مراح وغيره. وهنا يبدأ مسلسل جديد من الضياع، يجبر فيه المهاجر على إعادة بناء حياته مجددا وعلى مغادرة البيت العائلي، بينما تجبر الزوجة المطلقة على التكفل بأطفالها ورعايتهم بفضل مساعدات الحكومة التي تقدم يد العون بمجرد تثبيت الطلاق. لكن، يقول الأولياء، ''المعونة لا تكفي لتربية الأولاد، فلابد من رب الأسرة الذي ينصح ويراقب سلوك أولاده، وهو أمر غائب تماما بسبب التفكك الأسري''. هذا هو الحال الغالب على المهاجرين الجزائريين في ''غيتوهات'' تولوز، وهذا لا يعني عدم وجود جزائريين ناجحين ومندمجين، ولكن عددهم قليل مقارنة بالغالبية العظمى التي تقيم في عمارات عائلية، يزداد وافدوها سنة بعد أخرى، وتزداد مشاكل ساكنيها عاما بعد آخر. ويقول جزائريون مهاجرون في فرنسا منذ استقلال البلاد، إنهم يسعون جاهدين للاندماج في المجتمع الفرنسي، ولديهم وظائف في المصالح البلدية وبعض الإدارات، كخدمات المطار والميترو ومصالح الشؤون الاجتماعية، حيث تؤكد ''فطيمة''، التي تشتغل في هذا المجال، إن ''توفير فرص عمل للمهاجرين وأبنائهم يصطدم بعدة عقبات، أبرزها غياب الكفاءة الناتجة عن ضعف المستوى التعليمي، وهناك حاجز نفسي حقيقي بين المهاجرين والفرنسيين، لمسته بنفسي''. بينما يسعى العربي السنوسي، المهاجر في فرنسا منذ خمسة أو ستة عقود، لتأسيس حزب سياسي أطلق عليه اسم ''جمهورية القلب''. ويريد العربي القول، من خلال تسمية هذا الحزب، إنه ''مفتوح للجميع وليس له أجندة سياسية معينة، كما أنه ليس إقصائيا''. وبخصوص الجزائريين، يقول العربي: ''هذا هو هدفنا، نريد أن يصبح الجزائريون متوحدين للدفاع عن حقوقهم، ونريد أن تكون كلمتنا مسموعة في السياسة والإعلام''. ويضيف قائلا: ''قمنا بعدة حملات توعية في شهر رمضان وفي غيره، ونسعى حاليا للحصول على مقر لحزبنا الجديد تحسبا للانتخابات البلدية المقبلة''. ويلاحظ في هذا الإطار، أن ممثلين عن الأحزاب السياسية الفرنسية، خصوصا ذات التوجه الاشتراكي، لا يتوقفون عن زيارة الضواحي للحصول على تأييد سكانها، رغم أن ''السلوك الانتخابي'' لدى المهاجرين الجزائريين أمر نادر. وفي أمور السياسة، بالمناسبة، لا يبدي المهاجرون اهتماما كبيرا بحضور التجمعات الحزبية، ما عدا متابعة الأخبار عبر التلفزيون. وفي حالة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يحظى المرشح اليساري المشاغب، كما يسمونه، جون ليك ميلونشون، بشعبية كبيرة لدى الجزائريين، لأنه تمكن، حسبهم، من تركيع مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، بل يحتفظ الكثير منهم بفيديوهات عن مناظرة جرت، قبل أيام، في التلفزيون، أفحم خلالها ميلونشون لوبان، وجعلها تندم على حضور المناظرة. وفي حي حي راينيري مثلا، لا توجد سوى ملصقة المرشح ميلونشون على جدران الحي، كدلالة على حجم القبول الذي يحظى به لدى سكان الضواحي. وعندما تسأل يجيبونك: ''إنه ليس عنصريا مثل لوبان وليس مثل ساركوزي الذي يحاربنا في كل مكان''. أما رأي سكان الضواحي هنا في تولوز في الانتخابات البرلمانية الجزائرية المقررة الشهر المقبل، فهناك من لم يسمع أصلا بهذه الانتخابات، وهناك من يشكك في نزاهتها، وهناك من يرى أنه غير معني بها لأنه يعيش في فرنسا، لكن هناك من يعتقد بأن الانتخابات سلوك إيجابي ولا بد من حدوث تغيير، لأنه لن يبقى طوال حياته في الغربة. وبالعودة إلى قضية محمد مراح ومدى تأثيرها عليهم في قابل الأيام، فيتخوف قطاع واسع من المهاجرين، التقيناهم في الضواحي، من المضايقات البوليسية ومن التمييز العنصري أكثر مما هو واقع بهم الآن. وخلال جولة التحقيق في قضية مراح، أبدى الكثيرون تحفظهم إزاء الخوض في موضوع محمد مراح. ووصل الأمر بأحدهم إلى حد أنه طلب منا إغلاق الهواتف النقالة عندما استقبلنا في بيته، أما فهو فلم يكتف بذلك، بل قام بتفكيك كل الهاتف الذي كان يملكه خوفا من الملاحقة.