يقول أبو الأسود الدُّؤلي لبنيه: أحسنتُ إليكم كباراً وصغاراً وقبل أن تولدوا. قالوا: كيف أحسنتَ إلينا قبل أن نولَد؟ قال: اخترتُ لكم من النِّساء مَن لا تسبّون بهنّ. الأسرة هي الخلية الأولى الّتي ينشأ الطفل فيها. وكلّما كانت الأسرة متماسكة مترابطة، شعر الطفل بقدر كبير من العناية، وكان لذلك أثره في تكوينه النّفسي والجسدي. ومن هنا، يتّضح مدى اهتمام الإسلام باختيار الزّوجة، وقديماً قيل: (إنّ الرجل يبحث عن زوجة لا لِتُنجِب الأطفال، بل ليصنع الرِّجال والأبطال، ولا ينسل فيخلد في ولده، بل لينسل البطولة فيه فتخلد في قومه). ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''رحِم الله والداً أعان ولده على برِّه''. لقد بنى الإسلام قاعدته الأساسية في بناء المجتمع على محاور ثلاثة، جعلها على شكل حلقات فولاذية الربط لا تجر عربة الحياة إلاّ بها، وأوّل تلك الحلقات حلقة الربط في بناء الفرد المسلم، خَلقياً وأدبياً وتربوياً، لتصبح له جاهزية خُلقية إسلامية عالية المستوى في بناء أسرته الّتي هي النّواة الثانية (الحلقة الثانية) في بناء مجتمع إسلامي، أُسس بنيانه على الأخلاق والتّقوى. وعندما يصلح الفرد والأسرة، فلن يكون هناك مجتمع في الدّنيا أقوى منه على التماسك والتّعاضد، الّذي هو النواة الثالثة في بناء دولة عظيمة مهيبة الجانب. وهذه المحاور الثلاثة هي الّتي اعتمدها ديننا الإسلامي الحنيف، فأولاها الأهمية الأولى بعد ترسيخ الإيمان بالله تعالى في نفوس أبنائه، الّذين ارتضوا الله سبحانه وتعالى رباً ومحمّداً صلّى الله عليه وسلّم رسولاً والإسلام ديناً، وهذا ما عمد إليه تماماً المربي الأوّل سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي أولى في أحاديثه الشّريفة (الفرد والأسرة) أولوية متقدمة، لأنّ الرّسول، عليه الصّلاة والسّلام، جعلنا نُدرِك من خلال أحاديثه الشّريفة أنّ هذا الدِّين العظيم لن يجد له طريقاً إلى الدّنيا بأسرها إلاّ إذا صَلُح الفرد والأسرة. لذا، قال غوستاف لوبون (أحد كبار الكتّاب الغربيين): ''إنّي لأعجب كيف تمّ لهذا النّبيّ العربي مع هؤلاء البدو أن يؤسّس دولة لها مقوّمات حضارية عظيمة، استطاعت في مدى ثلاث وعشرين سنة أن تقهر أكبر إمبراطوريتين في ذلك العصر، إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم''. ونحن إذا أردنا أن نبطِل عجبه نقول: إنّ ما تعجب له إنّما له حقيقة، وسببه هذا البناء الشّامخ للفرد والأسرة الإسلامية الّذي خرَّج هؤلاء الرِّجال العظام الّذين قهروا دولة الفرس في خمسة عشر ألف رجل منهم، وقهروا إمبراطورية الروم في ستين ألفاً منهم، وتغلّبوا من واقع هذه التربية الإسلامية للفرد والأسرة على ثلاثمائة ألف رومي، قهروهم في معركة اليرموك.