قبل مباراة الجزائر وروندا في البليدة، كان منشّط الملعب يدعو الجمهور إلى احترام النشيد الرواندي، وهي إشارة مهمّة في بعدها الثقافي، لكنّها تكشف عن انتشار ثقافة الاستهتار وإحراج الآخر بعدم احترام رمز سيادته.. ولكنّ الجمهور في البليدة وقف احتراما للروانديين رغم طول مدّة عزف النشيد.. وكثير من الناس يذكر ما توصّل إليه خبراء نفسانيون ألمان بعد هزيمة منتخبهم في مونديال إسبانيا 1982 أمام الجزائر، إذ بحثوا في كل الأسباب ليصلوا في النهاية إلى أنّ الشعرة التي قصمت ظهر البعير الألماني، هي نشيد قسما، الذي يهيّج الأعصاب ويحيل الصخر إلى تراب. وكان ''قسما'' قد اختير في عام 1996 كأفضل نشيد بين مائة تم عزفها في حفل ببروكسل.. فالنشيد ثابت ثقافي وسياسي وعنوان للهوية. ألم يعلن المتطرف جان ماري لوبان الحرب على منتخب فرنسا 1998 لأن لاعبيه، وهم من أبناء المستعمرات القديمة، لا يحفظون كلمات ''لامارسييز''.. وليته يخجل، لأنّ بعض مقاطع النشيد لا يجرؤ على ترديدها تورام أو حتى زيدان.. وكنتُ قبل دورة أمم أوروبا 2008 التي احتضنتها النمسا وسويسرا، كتبت مقالا عن ظاهرة عدم احترام أناشيد الدول أثناء عزفها.. وتساءلت حينها، رغم أن البطولة تمت في بلدين متجاورين، يتكلمان الألمانية لماذا اختار المنظمون نجم الأغنية الاسباني أنريكي إيغليسياس ليؤدي نشيد البطولة بالإنجليزية، وعنوانه ''كان يون هير مي'' وبالعربي الفصيح ''هل يمكنك أن تنصت إليّ..''؟. والجواب ربّما يكمن في كون خبراء اللغة في العالم يقولون إن من بين أكثر من ستة آلاف لغة ولهجة لن يتحدث العالم بعد مائة عام أو أقل سوى أربع لغات هي الإنجليزية الأمريكية بحكم الانتشار المذهل لها بين أمم الأرض، والاسبانية لوجود هذا اللسان في أربع قارات، والصينية لكون سدس سكان الأرض يلهجون بها، واللغة العربية المحفوظة بالقرآن الكريم.. أما بقية لغات العالم فلا ذكر لها في تفكير هؤلاء الخبراء، وستحال على متاحف اللغة رغم محاولات تطويرها عبر تكنولوجيا الاتصال الجديدة.. أوروبا تعرف خطر حروبها اللغوية قبل الكروية، لهذا اختارت شابا أندلسيا وسيما وقالت له غنّي بلسان شكسبير وسننصت لهذا النشيد الذي ربما كان تعويضا للإنجليز عن غيابهم التاريخي.. بينما اختار السويسريون واحدا من كبار فناني الدولة المحايدة ليعزف نشيدا بعنوان ''نحن أوروبا''، ومن حقهم أن يكونوا كذلك ما دامت خزائنهم تحفظ أموال أوروبا.. والعالم. الكرواتيون أيضا لهم قصة مع النشيد، فقد اهتدى مدربهم سلافان بيليتش إلى فكرة تنسجم وموهبته، باعتباره عازف غيتار ماهر وعضو في فرقة ''راوبو'' الموسيقية. قام بتأليف نشيد لجماهير كرواتيا خاص بالمنتخب عنوانه ''جنون ملتهب'' بهدف إشعال حماس الجماهير.. لكنّ النشيد والمنتخب سقطا في الماء.. وحتى لا أبتعد عن الأناشيد أشير إلى ما حدث للتشيك عندما قابلوا وديا منتخب ليتوانيا في براغ، إذ خرجوا بفضيحة لا تنسى تمثلت في توزيع مطوية تتضمن صورة لمنتخب ليتونيا وعلم ليتونيا وخارطة لجمهورية ليتونيا وعاصمتها ريغا ومعلومات حول تاريخ شعب ليتونيا.. وانتهت بعزف نشيد ليتونيا.. فلم يجد اللاعبون الليتوانيون سوى ضرب أخماسهم بأسداسهم والشد على أردافهم والصراخ بأعلى أصواتهم في الملاعب ''يا ناس نحن منتخب ليتوانيا وليس ليتونيا..'' (..) فشعر التشيكيون بحرج كبير وبهدلة أمام الرأي العام.. يحدث هذا في أوروبا التي لا تفرّق بين ليتونيا وليتوانيا وكلاهما طلع من رحم الاتحاد السوفياتي سابقا. والسؤال الذي طرحته، وربما يكون طرحه غيري على نفسه هو ماذا لو أن خطأ كهذا وقع في بلد عربي أو إفريقي أو ما يحسب على العالم الثالث والرابع.. بالتأكيد لن يغفر له ذلك، لأنه مساس بسيادة دولة وتجريح لكرامتها.. ويكفي أن أذكر بما حدث في ربيع 2008 قبل مباراة الشباب بين منتخبي الجزائر والمغرب حيث توقف شريط بث النشيد المغربي في المنتصف مما جعل التأويلات عن النية في فعل ذلك تصل مستويات أبعد من الرياضة.. وهو كما قال لي رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم يومها حميد حداج حدث بسبب خلل فني غير مقصود.. وأذكر أن بلاتر السويسري صار يفكر جديا في إلغاء عزف النشيد الوطني لأي منتخب حتى لا يهان بفعل التصفير وتصرفات الجماهير التي تسقط من حساباتها مسائل السيادة والكرامة.. وما عاشه بلاتير في مباراة سويسرا وتركيا في 2008 وشعوره بالإهانة والإذلال هو الذي جعله ينتبه إلى ما تعانيه رموز الدول من إساءات.. ولكن إمبراطور الفيفا لم يقم بذلك فحدث ما حدث لليتوانيا التي دفعت فاتورة الخلط بينها وبين ليتونيا، وكأن التشيك التبس عليهم الأمر بين الحسن والحسين.. ولتجنب ذلك أدعو ليتوانيا إلى الاقتداء بكوت ديفوار الذي قال للعرب لا تترجموا اسمي إلى ساحل العاج واكتفوا باسمي الفرنسي كوت ديفوار، وتكريس اسمها الأصلي ''لاتفيا'' حتى لا يخطئ الآخرون في نشيدها واسم عاصمتها وشكل علمها.. وأنا أبحث عن أخبار الأناشيد ومعانيها، عثرت على نشيد مختلف تماما قام به ديفيد كريستوفيل استطاع من خلاله أن يجمع أناشيد 25 بلدا أوروبيا وأضاف إليه نوتات من أناشيد الجزائر وتركيا والولايات المتحدة.. وهو لا يتجاوز ثلاث دقائق وثلاثين ثانية، والحقيقة أن المزج الفني الذي قام به هذا الفنان يكشف عن قدرة فائقة في الوصول إلى نشيد واحد ينسجم مع كل الثقافات والمشاعر القومية.. ونصيحتي لبلاتر أن يعتمد تجربة كهذه وأن يكتفي بعزف نشيد واحد نطلق عليه اسم ''نشيد الجلد المنفوخ'' وحينها لا يتسبب الأتراك في المساس بكرامة السويسريين ولا يخطىء التشيك في حق الليتوانيين.. والذنب يتحمله موزار لأنه عرف الموسيقى قبل الكرة.. أمّا دورة 2012 فإنّ الإفتتاح سيشهد عزفا نشيديا لبولندا واليونان بواسطة الجوق الأكاديمي لجامعة فارسوفيا المشكّل من 75 فردا.. أمّا فنان الافتتاح فهو المجري آدم جيورجي المعروف في أوروبا.. والمشهور كأحد لاعبي كرة القدم في القاعات.