دعا الأساتذة المشاركون في ندوة ''الخبر'' حول مسألة الشرعية الثورية، إلى ضرورة الانتقال إلى الشرعية الدستورية وشرعية الكفاءة التي تضمنها النخب الجديدة. ودعا الدكتور أمين الزاوي إلى نزع القداسة عن الشرعية الثورية التي انتهت، حسب النائب السابق عدة فلاحي، خلال أزمة صيف 1962 وبروز ظاهرة الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. فيما تساءل أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر 2، عمر بوساحة: ''هل يحق للجيل القديم أن يستمر على رأس السلطة خمسين سنة بعد الاستقلال باسم ما أنجزه في الماضي؟''. بينما يعتقد أستاذ التاريخ، الدكتور محمد القورصو، أن ظاهرة الشرعية الثورية في الجزائر أوجدت حالة من الدوغمائية التي حالت دون تقديم كتابة موضوعية للتاريخ. ''الشرعية الثورية بعد الاستقلال كانت أمرا ضروريا'' يعتقد أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر 2 أن الشرعية الثورية من الناحية التاريخية، هي امتداد طبيعي لما كانت تمثله من تواصل للثورة، من الجانب النظري والجانبين السياسي والايديولوجي، وكذلك تواصل الفاعلين، أي الأشخاص الذين كانوا وراء حصول الجزائر على الاستقلال، وهم تقريبا نفس الأشخاص الذين سنجدهم بعد الاستقلال على رأس أجهزة الدولة. وتساءل الأستاذ القورصو قائلا: ''هل هذا طبيعي أم لا؟''، وأجاب: ''من وجهة نظري، بالنسبة للشعوب التي كانت تعاني من الاستعمار، فإن الأمر طبيعي، بالنظر لعدة أسباب، بعضها موضوعي. والمقصود أننا بصدد التعامل مع سؤال: من تحمّل ثقل الثورة الجزائرية؟ ولو أنها كانت ثورة شعبية، إلا أنه لا يمكن إغفال كون الشعب الجزائري في تلك الفترة كان أمّيا، ما يجعلني أقول إن النخبة هي التي أطلقت الثورة وهي التي نفذتها، وهو ما خوّلها لأن تكون بعد الاستقلال المسؤولة، على اعتبار أن هذه المسؤولية كانت امتدادا طبيعيا للنشاط الثوري. من هذا المنطلق، يمكنني الإجابة على سؤالكم بالقول إن الشرعية الثورية في تلك الفترة كانت أمرا ضروريا، لأن الشباب الذي قام بالثورة، آنذاك، كان في قلب المعارك، سواء كانت الدبلوماسية أو السياسية وحتى العسكرية، وبالتالي كل هذه المعارك التي خاضوها في العمل الميداني منحتهم الشرعية''. وعن السؤال التالي: ''هل تعتقد أن شرعية نوفمبر جاءت على أنقاض شرعية الحركة الوطنية التي سبقتها، ما يسمى بالمصالية؟''، رد القورصو: ''في اعتقادي، لا بد من بعض التوضيح بخصوص هذه النقطة. المصالية هي من قتلت نفسها بنفسها. صحيح أن شرعية الحركة الثورية يمثلها الأب الروحي للحركة، وهو مصالي الحاج، دون منازع ومن ينكر على مصالي هذه الحقيقة يكون جانب التاريخ. غير أن الشرعية سحبت منه، حين رفض الانضمام للمجموعة التي فكرت في تفجير الثورة. لقد استبدلت شرعية بأخرى. كانت هناك شرعية يمكن تسميتها بشرعية حرب المقاومة، لتلي بعدها شرعية الحركة الوطنية ثم شرعية الحركة الثورية. وهذا ما يدل على تطور الفكر الوطني الذي كان على الدوام في حركة تصاعدية، يبقى أن نقول إن الشرعية الثورية مرّت بفترات عصيبة جدا، تمثلت في ما نسميه بانقلاب .1965 هذا الحدث كان خطيرا، من حيث أنه أدى بنا إلى الانتقال من الشرعية الثورية إلى شرعية الأسلحة وشرعية الأقوى من الناحية العسكرية والأذكى سياسيا. وهنا، لا بأس من التذكير أنه من بين المفاهيم الجديدة التي تقدم بها الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة، ضرورة الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية''. ''الشرعية الثورية تحوّلت إلى عقيدة أكثر من الدين الإسلامي'' ولدى تناوله الكلمة، قال الروائي والمدير العام السابق للمكتبة الوطنية الجزائرية، الدكتور أمين الزاوي: ''أود التوقف عند مفهوم الشرعية الثورية وما المقصود به، لأنه من كثرة ما نتحدث عن هذه الشرعية، ننسى أحيانا مدلولها الحقيقي ومن جاء بهذا المصطلح. شخصيا، يبدو لي أن مصدر هذه الشرعية يعود إلى الخوف الذي كانت تشعر به المجموعة التي قامت بالثورة، على اعتبار أنها لم تكن تملك فلسفة كبيرة للمشروع الثوري الذي كانت بصدده لحمل المشروع لأبعد نقطة. وهذا أيضا سبب الخلافات التي حدثت فيما بعد بين القادة أنفسهم، فكانت الشرعية هي الفكرة التي تحمي الثورة وكل من ينتمي إليها، إلى درجة أن هذه الشرعية تحوّلت مع الوقت إلى ما يشبه العقيدة والدين التي لا يمكن التجادل حولها، وعليك أن تؤمن بها، بل إن الشرعية الثورية تحوّلت إلى عقيدة راسخة أكثر من الدين الإسلامي''. ورد الزاوي على سؤال: هل عمدت الشرعية الثورية إلى إقصاء الطبقة المثقفة وكل ما له علاقة بالثقافة والبعد الفكري؟، قائلا: ''أعتقد أن الشرعية جاءت لتجد فضاء للتواصل ما بين الأجيال وما بين التيارات، إذ أنها كانت تجمع الكل، أيا كانت الاختلافات، كان من الممكن أن تكون إسلاميا أو شيوعيا، لكن الثورة تجمعنا، ما جعل هذه الشرعية تخلق ما يشبه أرضية يقف عليها الجميع ويتفق عليها الكل. من جهة أخرى، أرى أن مسألة الشرعية الثورية تكشف عن البعد الأبوي في الذهنية الجزائرية، وهي الذهنية القائمة إلى حد الآن، على اعتبار أننا ننظر إلى الشباب على أنه لا يملك التجربة، وبالتالي يظل الأب على الدوام أكثر دراية. ومادام الأب موجودا، فإن الابن يظل ابنا، ولا يمكنه أن يتجاوز أباه. في اعتقادي أن هذا التفكير لا يصح في السياسة. وهنا، أعود للفكرة التي تحدث عنها الأستاذ القورصو، بالقول إنه لابد من العودة للوقت الراهن والفصل بين ما هو تاريخي وما يجب أن يكون معمولا به اليوم. هناك أمور يجب أن تدرس، وأمور يجب أن تمارس، وصحيح أنه لا بد من الانتقال من الحديث عن الشرعية الثورية إلى الحديث عن شرعية دستورية، شرعية الحداثة والبناء، والأهم شرعية الكفاءة''. ''النزاعات بين الأشخاص أخلطت كل الأوراق'' وقال محمد القورصو بخصوص سؤال حول ظاهرة الخلافات بين قادة الثورة، والتي جعلتهم يتنازعون على هذه الشرعية الثورية: ''نحن ننطلق من فكرة أن هناك شرعية يمكن تسميتها الشرعية الأم، وهي الشرعية الثورية التي كانت في نوفمبر 1954، والتي كانت تهدف بشكل أساسي إلى طرد الاستعمار، غير أن هذه الشرعية الأم أفرزت شرعيات أخرى. هنا، يصح السؤال: هل فعلا أفرزت شرعيات أخرى أم خلافات جديدة؟ شخصيا، يبدو لي أنها أفرزت خلافات، وهي التي ستضحي بالشرعية الثورية، لأنها ستفتح الباب أمام الحديث عن شرعية أشخاص وتيارات ومناطق وما إلى ذلك. على سبيل المثال، شخص مثل فرحات عباس الذي كان يتمتع بشرعية سياسية قوية، أصبح يشكك في شرعيته، بل ونزعت منه أكثر من مرة''. وأضاف: ''هذه النزاعات بين الأشخاص الذين أطلقوا وساهموا في الثورة هي التي خلطت كل الأوراق، وجعلت من هذه الشرعية شيئا مشبوها، لأنه كان يُفترض أن يكون حامل الشرعية صاحب كفاءة في ذات الوقت، لكن ذلك لم يحدث. وفي اعتقادي، هذا هو النقاش الحقيقي، لابد أن يتمحور حول علاقة الشرعية بالكفاءة، لأنه عمليا حان الوقت للخروج من هذه الشرعية الثورية وأن نبدأ في الحديث عن الشرعية الدستورية التي تقتضي الكفاءة مثلما يقتضيه مبدأ الديمقراطية. هذا لا يعني أننا ننفي أن الشرعية التي وجدت بين 1954 إلى 1962 هي شرعية الرصاص وشرعية الصمود للتصدي للاستعمار. مرة أخرى، أقول رغم أن الشعب الجزائري ساهم في الصمود، إلا أن شرعية الرصاص تظل الأولى، لأنه لولا الثورات الميدانية، لما كان الاستقلال''. ''الشرعية الثورية انتهت خلال أزمة صيف 1962'' من جهته، أوضح النائب السابق عدة فلاحي أن الشرعية الثورية انتهت خلال صيف 1962 بسبب الصراع على السلطة، وقال: ''في اعتقادي الخاص، عند الحديث عن الشرعية الثورية، لابد أن نتذكر أن استقلال الجزائر ساهم فيه كل الشعب الجزائري، وحتى أشخاص من قوميات وديانات وجنسيات مختلفة، وهذا أمر لا يجب أن نغفله، لأن الغالبية كانت تنظر للمشاركة في الثورة الجزائرية على أنه واجب، إما ديني أو إنساني. وعليه، أعتقد أنه لا يصح أن تقوم فئة ما باحتكار مفهوم الشرعية واستغلاله. من ناحية أخرى، أرى أن الشرعية الثورية انتهت قبل انقلاب 1965، أي صائفة 1962، عندما حمل السلاح بين قادة الثورة أنفسهم، حيث انتقل الصراع من تحرير البلاد من المستعمر إلى صراع على السلطة، وتحوّل الأمر إلى سعي لإقصاء وجوه ثورية بغرض الوصول للسلطة. وهناك من استخدم السلاح، ومن لجأ إلى النضال السياسي، تماما كما تم إقصاء التيار الديني الممثل في جمعية العلماء المسلمين، حيث تعرّض الشيخ الإبراهيمي، آنذاك، للعديد من المضايقات، وكان قد أصدر بيانا ندّد فيه بالأحداث في تلك الفترة، وعارض ظاهرة الصراع على السلطة. وعطفا على هذا الحديث، أقول إن إقصاء التيار الديني في تلك الفترة ترك الجزائر دون مرجعية دينية، وهو سبب ما نعيشه اليوم من تهافت مرجعيات أخرى على التدين في الجزائر، وقد بلغ الأمر حدّ وجود أزمة مرجعية دينية حقيقية في الجزائر''. ''هل يحق لهم أن يستمروا على رأس السلطة خمسين سنة بعد الاستقلال؟'' تساءل أستاذ الفلسفة عمر بوساحة: هل يحق لهم أن يستمروا على رأس السلطة خمسين سنة بعد الاستقلال، باسم ما أنجزوه في الماضي؟ وأجاب: ''في اعتقادي، الحديث عن الشرعية الثورية يقودنا بالضرورة للحديث عن نظام الحكم في الجزائر بعد الاستقلال، لأنه ما من أحد يشكك في الشرعية الثورية خلال فترة ثورة التحرير، لكن الأهم هو كيف تحوّلت هذه الشرعية إلى وسيلة لبلوغ السلطة عقب الاستقلال؟ شخصيا، أنطلق من فكرة أن التاريخ ليس بتلك الصورة الطاهرة التي يصوّر فيها في الكتب المدرسية، صحيح أنه حصل الكثير من الإقصاء، وأنتم تحدثتم عن مصالي الحاج الذي رغم رفضه الالتحاق بالثورة، إلا أن ذلك لا يلغي كونه أباها، كما لا يمكن إغفال التصفيات الجسدية التي حدثت خلال الثورة. وبالعودة للاستقلال، لابد من القول إن الرصاص هو الذي حسم الموقف لصالح فئة ضد أخرى. من هنا، يحق طرح السؤال: هل من استولى على السلطة كان يتمتع بالشرعية الثورية؟ أنا لا أزعم الحكم على أي طرف، لكن أعتقد أن ما تم في تلك الفترة جاء في سياق عام، كانت القوة وحدها كفيلة بحسم الموقف. ومع احترامنا لهؤلاء الذين قدموا أنفسهم للثورة، لابد أن نطرح سؤال هل يحق لهم أن يستمروا على رأس السلطة خمسين سنة بعد الاستقلال باسم ما أنجزوه في الماضي، مع استمرار إقصاء الأجيال المتعاقبة؟''. ''الجزائريون كلهم ساهموا في الثورة ولا يهم أمر الإثبات'' تأكيدا على كل ما ورد في النقاش، قال الدكتور القورصو: ''لا بد من القول إنه في الفترة الأخيرة بدأت تظهر بعض المؤشرات، في اتجاه إعادة الاعتبار للشخصيات الوطنية التي عرفت الإقصاء باسم الشرعية الثورية على مرّ عقود من الزمن، الكل يتذكر كيف تم إقصاء اسم مصالي وغيره كثير من المقرّرات المدرسية، أكثر من ذلك، كان من يذكر اسمه كأنما ذكر اسم هتلر، وفي ذلك إشارة للإقصاء الذي مورس باسم الشرعية الثورية، ليس فقط تاريخيا وإنما في كل المجالات، بما فيها الدينية والفكرية والثقافية، على اعتبار أن من استغل الشرعية الثورية، سعى لأن تكون وسيلته للبقاء في السلطة. وهذا يقودنا للحديث عن الحاضر الذي أصبح فيه الجزائريون منقسمين إلى فئات مختلفة، هذا أمر من شأنه أن يلغم مستقبل الجزائر، وهذا هو الأخطر، لأنه لا يجب أن نغفل أن من بين الجزائريين من ساهم في الثورة من منطلق الواجب الوطني ولا يهتم بمسألة إثبات الأمر، ليجد نفسه اليوم مقصى من مجموعة أصحاب الشرعية، الخطورة تكمن اليوم في ظهور شرعيات جديدة، انبثقت عن هذه الشرعية الثورية''. ''مازال مفهوم الشرعية الثورية يخيف في ظل استمرار وجود الآباء المدافعين عنها في السلطة'' وعن السؤال التالي الذي طرحته الندوة: ''ألا ترون أنه حان الوقت لأن يطالب المثقفون بإعادة النظر في هذه الشرعية ونزع هالة القدسية عنها؟ قال أمين الزاوي: ''من وجهة نظري، الأمر مرتبط بالأجواء الديمقراطية بشكل عام، لا أتصوّر أن تكون هناك علاقة صحية مع هذه الشرعية في غياب الأجواء الديمقراطية، إذ مازال مفهوم الشرعية الثورية يخيف، في ظل استمرار وجود الآباء المدافعين عنها في السلطة. كل من يطالب اليوم بإعادة النظر في الشرعية الثورية كمن يكفر، وأعتقد أنها معركة صعبة، لأنها مرتبطة بكتابة التاريخ الجزائري ككل. هل ندرك، اليوم، كل ما يتعلق بتاريخ الجزائر؟ مازالت الكثير من الملفات مغيّبة، وهناك الكثير من الأرشيف غير المتاح، وبالتالي الجيل الذي أنتمي إليه لم يقرأ بعد تاريخ الجزائر بكل أبعاده إلى اليوم. من هنا، يبدو لي أن المثقف الجزائري تم تدجينه داخل هذه الضبابية التاريخية التي يرى فيها بعيدا، إلى درجة تحوّل فيها التاريخ إلى بعبع حقيقي، لا أحد يدركه ولا أحد يمكن له أن يقترب منه. من هنا، أرى أن غياب نقد المثقفين للشرعية ناتج في الأساس عن غياب كتابة التاريخ بموضوعية وحيادية، والدليل أننا إلى اليوم لا نجد قراءات متعدّدة للتاريخ وبوجهات نظر مختلفة. مازلنا نتحدث عن محفوظ قداش وأبو القاسم سعد الله، ولا نجد جيلا جديدا يكتب التاريخ بنفس جديد، بمفاهيم قوية تسمح بتحويل كتابة التاريخ إلى مادة في متناول الجميع''. ''التاريخ تحوّل مع مرور الزمن إلى طابو'' وعقب عمر بوساحة بخصوص نفس السؤال: ''لا بد من التذكير أن الذين أخذوا الحكم عقب الاستقلال قاموا باستغلال إنجاز إيجابي، وهو ثورة التحرير والاستقلال، وقدموا التاريخ بشكل طاهر، ما ساهم في أن يصبح مقدسا، ليتحوّل مع مرور الوقت التحدث في كل ما له علاقة بالتاريخ إلى طابو. ورغم وجود بعض الأسماء التي تسعى لقراءة التاريخ بشكل موضوعي، إلا أن استمرار وجود الرقيب يحول دون ذلك''. ''مورس في الجزائر استبداد فكري في كتابة التاريخ'' وعن سؤال حول خطاب رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، الذي فتح الباب أمام قراءة جديدة للتاريخ، بحديثه عن حتمية إعادة قراءة التاريخ بموضوعية في خطابه بقسنطينة عام 1999، أوضح القورصو: ''شخصيا، لا أعتقد أن الرئيس كان سبّاقا في الحديث عن ضرورة إنهاء الشرعية الثورية، ثم لابد من القول إن حالة الخوف التي سكنت العقول على مدار عقود من الزمن، لا أتصوّر أنها تذهب بجرة قلم لمجرد أن الرئيس دعا إلى ذلك. كان هناك استبداد فكري في كل ما يتعلق بالتاريخ، الكل يذكر أنه حين كانت تصدر رواية لها علاقة بالتاريخ، كانت تعرض على الرقابة للتأكد من مدى مطابقتها للتصوّر العام للتاريخ، كان يتم تخوين الناس لمجرد ذكرهم اسم مصالي، أو أي من الشخصيات التاريخية المغضوب عليها من وجهة النظر الرسمية''. ''مصيبة كبرى أن يُطلب من المبدع أن يعرض عمله على الشرعية الثورية'' وعرّج الدكتور أمين الزاوي على الممارسات الحالية للسلطة لحماية التاريخ والحفاظ على الشرعية الثورية، وقال: ''ما يحدث اليوم في إطار الاحتفالية بمرور خمسين سنة على الاستقلال، أن كل من لديه مشروع فيلم تاريخي تتم إحالته على وزارة المجاهدين من أجل قراءة النص والموافقة عليه، هذا دليل على الكابح الموضوع في وجه الإبداع الثقافي، وفي وجه كل محاولات السعي لتقديم رؤى جديدة عن التاريخ، ولو كانت في إطار إبداعي. وهذا دليل على غياب الحرية والاجتهاد في تقديم طرح تاريخي جديد خاص بالجيل الجديد، وليس كما تمت صياغته في الماضي. نحن اليوم، مع الأسف، نقرأ تاريخ العديد من الدول بنفس وجهات نظر وحقائق جديدة، ولا يمكننا أن نُقدم على ذلك في الجزائر. أعتقد أنه حين يُطلب من المبدع أو المفكر أن يعرض عمله على الشرعية الثورية، لتمنحه الترخيص للنشر أو التسجيل أو ما إلى ذلك، فتلك مصيبة كبرى، لم نعرفها حتى في وقت الاشتراكية. في اعتقادي الخاص أن الشرعية الثورية بمفهومها المتعارف عليه لدينا، حين تقحم نفسها في كل ما له علاقة بالإبداع والثقافة والفكر، فإنها تلغي الحرية وتقضي على آليات الإبداع''. ''كأن الوزير الأول يقول إن إنهاء الشرعية الثورية وضعت بين يدي شرعية المال والفساد'' وعقب عدة فلاحي بقوله: ''تستوقفني نقطة، في اعتقادي هي غاية في الأهمية، وهي تلك المتعلقة بالدعوة التي أطلقها الرئيس حول انتهاء الشرعية الثورية، والتي قابلها تصريح آخر من رئيس الوزراء، يُحذر قبل الانتخابات من أن السلطة أصبحت بين يدي المافيا المالية، وكأنه يقول بشكل من الأشكال إن إنهاء الشرعية الثورية وضعت بين يدي شرعية المال والفساد. وهنا، يحق لنا أن نضع علامة استفهام، هل هذا الكلام يعني أننا نضع الشرعية الثورية مقابل شرعية المال والفساد؟ مثل هذا الكلام خطير، ويضعنا في ورطة حقيقية''. ''هل من المعقول أن تستمر الشرعية الثورية في ظل الحصيلة التي وصلنا إليها؟'' وبخصوص مسألة المثقف ومكانته حاليا، قال القورصو: ''الكل يتحدث عن دور المثقف الجزائري، لكن أنا أطرح سؤالا: أين هم المثقفون؟ حين نتحدث عن المثقف في الجزائر، نتحدث عن أفراد، وليس مجموعات مهيكلة ومنظمة. وفي اعتقادي أن الفضاء الأمثل لمثل هذه النقاشات هي الجامعة أو النوادي وغيرها. ولكن أين هي هذه الفضاءات؟ اليوم، حين نرى المناهج الجامعية، نتأكد من التراجع الكبير ومن المساعي لتدجين المثقف وكل من بإمكانه المساهمة في إثراء النقاش، في المقابل، نرى كيف تم خلق من يمكن تسميتهم بالمثقفين الرسميين الذين يتحدون، دون أن يتمكنوا من تقديم أي جديد. كان من المفترض أن يتم الفصل، فور الاستقلال، بين حزب جبهة التحرير الوطني والدور التاريخي الذي قام به خلال الثورة، وبين كونه حزبا سياسيا يطمح للوصول إلى السلطة عقب الاستقلال. نحن نرى، اليوم، وجود هذا الحزب بالعقلية القديمة، وهو أمر لا يُبشر بالخير. مرة أخرى، من حقنا أن نسأل: هل من المعقول أن تستمر الشرعية الثورية بعد خمسين سنة من الاستقلال وفي ظل الحصيلة التي وصلنا إليها؟''. وبشأن الطرح السائد حاليا، والذي يقول إن الشرعية الثورية عادت بقوة، بسبب محاولات التيار الإسلامي الراديكالي القضاء على مقومات الدولة عند مطلع التسعينيات، قال محمد القورصو: ''تزامنت هذه الشرعية الدينية الجديدة مع حركة بويعلي، ثم برزت شرعية دينية تمثلها الزوايا''. وأضاف عدة فلاحي: ''لكن، للزوايا اليوم دور كبير، ووجودها ضروري لمحاربة التطرف''. وعقب عمر بوساحة: ''الآن، للدولة الجزائرية مؤسسات أخرى قادرة على حماية الهوية الجزائرية. الحركات الإسلامية استبدلت الشرعية التاريخية بالشرعية الدينية، ويعتبر ذلك بمثابة استمرار. استخدمت الحركات الدينية المتطرفة العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة، وانتهجت العنف الفكري والجسدي. وكما حلت الشرعية الثورية مشاكلها عن طريق العنف واستبعدت الفكر والمثقف، لجأت الشرعية الدينية إلى نفس الممارسات. لذلك، غاب المثقف في هذه المرحلة. في السبعينيات، كان هناك مشروع دولة، والآن لا مشروع للدولة، الجميع يسعى وراء المكاسب، فغابت مؤسسات المثقفين''. ''نحن اليوم أمام جيل جديد هو جيل الفوضى'' ويعتقد أمين الزاوي، بخصوص نفس الظاهرة، أنه حينما وصلت الشرعية الثورية إلى حالة من الصدأ، بمعنى أنها لم تستطع أن تتقدم إلى الأمام نحو الكفاءة، برزت شرعية جديدة لبست عباءة الدين. وهذه الشرعية الجديدة بدأ أقطابها يكفرون المجاهدين وينعتونهم بالحركى، واغتيل منهم الكثير، بحجة أنهم أصبحوا ''بزناسية''، وغيرها من الممارسات التي تبرز صراعا شرسا بين الشرعية الثورية والشرعية الدينية الجديدة. وأضاف: ''ولكن هذا الخطاب الإسلاموي يعتقد أن هذه الشرعية الثورية لم تتطور ولم تؤد إلى إنتاج مجتمع جديد، فتجاوزها التاريخ، وظهر جيل جديد ينتقدها باسم الدين. أعتقد أن هذا هو الذي جعل الإسلاميين ينجحون، ويحققون الرواج لخطابهم في مرحلة معيّنة. لكن ما يخيفني، الآن، هو مشروع الربيع العربي. الجزائر ترفض الدخول في هذا المشروع. وإذا لم ننتقل إلى مرحلة التغيير الحقيقي، فإننا حتما سنعود إلى فوضى التسعينيات، لكن دون الإسلاميين، لأن هؤلاء انتهى أمرهم، ونحن اليوم أمام جيل جديد أسميه جيل الفوضى، أو الجيل الضائع الذي لا فرص له في الحياة، الجيل المغبون. أعتقد أن هذا الجيل إذا لم نقدم له التغيير الذي ينتظره، فهو الذي سيقيم الدنيا ويقعدها بوسائل عنيفة''. وعن سؤال حول انتشار كتابات حول الثورة قادمة من فرنسا، بعضها تجاوز عتبة النقد وأصبح يروّج لظاهرة ''المراجعاتية''، وكيف نتعامل مع هذه الظاهرة الجديدة الوافدة علينا، قال محمد القورصو: ''تحدث المراجعاتية بسبب غياب القراءة النقدية للتاريخ، وهناك فعلا تخوف من انتقال فكرة المراجعاتية من باريس إلى الجزائر. أعتقد أنه علينا أن نميز بين القراءة النقدية للتاريخ وبين المراجعاتية، وهذه الظاهرة موجودة، للأسف. لماذا تواجدت المراجعاتية؟ لأنه لا توجد مقاربة نقدية شجاعة للتاريخ. لو تكتب، مثلا، أن القائد الفلاني قام بأفعال سلبية خلال الثورة، تقوم القيامة ضدك. ومن ثم ينبغي تحرير كتابة التاريخ، وتحرير الفكر وإخراجه من سياج الدوغمائية المغلق، وإبعاد السيف المسلط على الرقاب. صحيح يوجد خطاب سياسي نموذجي، لكن على مستوى التطبيق لا يظهر، لا يوجد تطبيق عملي لهذا الخطاب الذي يدعو إلى تحرير التاريخ''. ''منذ القرن الماضي ونحن نتحدث عن الشعب فأهملنا المجتمع'' وعقب الزاوي قائلا: ''على الإنسان الجزائري أن يعيد النظر في علاقته بالماضي. هذه العلاقة، كما أراها اليوم، هي علاقة عبودية، غير نقدية. نحن حبيسو نوستالجيا، لكننا لا نستعمل النقد في تناولنا للماضي. أكيد أن تاريخ الجزائر فيه جوانب مؤلمة وفيه انتصارات في نفس الوقت، لكن مادام المثقف الجزائري لم يقدم على إعادة النظر في هذه العلاقة، فإننا لا نستطيع أن نتقدم إلى الأمام، فالعلاقة الصحية مع الماضي تتم عبر النقد. نقدم لأبنائنا في المدارس دروسا حول الأدب الجاهلي، وكأننا من هذا الفضاء الثقافي فقط. أين هو تاريخ هذا البلد؟ ألسنا أصحاب مرجعية قبل الإسلام؟ الجزائريون يعرفون أماكن في الجزيرة العربية أكثر مما يعرفون جغرافيا الجزائر، وهذا نوع من الاغتراب في علاقته مع ذاته ومكانه. ثم إن الخطاب المنتج عندنا موجه إلى الشعب وليس إلى المجتمع، وهذا أخطر شيء. منذ القرن الماضي ونحن نتحدث عن الشعب، وهو خطاب خطير لأنه ينزلق إلى الشعبوية، ونسينا المجتمع في غمرة حديثنا عن الشعب. الشعب هو جزء من المجتمع. وبدل أن يحضر المجتمع المدني، حضر الشعب. وختم محمد القورصو قائلا: ''خطاب الشرعية خطاب استهلاكي. وهي لم تتأسس على خطاب عقلاني وبرنامج قابل للتحقيق، المهم بالنسبة لأصحاب الشرعية الثورية هو تمديد عمر النظام، وليس هناك تفكير ملموس لتطوير المجتمع''. العقيد الطاهر زبيري، أول قائد أركان للجيش بعد بومدين، ل''الخبر'' ''الشرعية الشعبية مجرد كلمات فارغة'' جيلنا مازال قادرا على تسيير البلاد ونحن ضد الزعامة والتوريث أكد العقيد الطاهر زبيري، أول قائد للأركان بعد العقيد هواري بومدين وآخر قائد تاريخي للأوراس، أن الشرعية التاريخية مازالت أساس الحكم في الجزائر، وستبقى من المهد إلى اللحد. موضحا أن الأشخاص سيزولون، لكن الوطنية التي منها انبثقت الثورة، ستبقى أساس الحكم في الجزائر، يتوارثونها جيلا عن جيل. مشدّدا على أنه سيحارب الزعامة والتوريث، باعتبارهما يتعارضان مع مبادئ الثورة. حصل حزب جبهة التحرير الوطني على الأغلبية البرلمانية، هل يعني هذا استمرار الشرعية التاريخية كأساس للحكم في الجزائر؟ شخصيا، لم أكن أنوي أن أنتخب، ولكني انتخبت جبهة التحرير كمبدأ وكحركة واكبت التاريخ والثورة. الأشخاص يزولون، وأما المبدأ التاريخي (الشرعية التاريخية)، فيبقى من المهد إلى اللحد، يتوارثه جيل عن جيل، ولو زال الأشخاص، لأنه امتداد للثورة التحريرية التي هي أصلا امتداد لثورات الأمير عبد القادر وبوعمامة والمقراني وغيرهم. الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أكد مرارا نهاية الشرعية التاريخية لصالح الشرعية الشعبية، فلماذا تحفّظ بعض المجاهدين حول الانتقال الطبيعي لشرعية الحكم؟ هذا رأي بوتفليقة، وليس رأينا نحن، ولا رأي المجاهدين. فالشرعية التاريخية لم تنته، فنحن فجرنا الثورة، والشرعية الشعبية مجرد كلمات فارغة، لأن الثورة أصلا كانت شعبية، والشعب هو الذي فجرها. وعليه، فالشرعية التاريخية مازالت أساس الحكم في الجزائر، ولكن هل يزول المبدأ! لا، فالقضايا المبدئية لا تزول، والوطنية هي المبدأ ولن تزول. وإذا انحرف الحكم إلى الشعوذة أو الزعامة، فسنحاربه. ولكن الثورة انتهت منذ نصف قرن باستقلال الجزائر، وعدة أجيال ولدت بعد الاستقلال، فلماذا يقتصر الحكم على جيل الثورة وتقصى أجيال من الحكم، لا لذنب سوى أنها لم تخلق خلال الثورة؟ الثورة لم تنته، فليست فقط البندقية التي حرّرت البلاد. وإن سلمنا بانتهاء الثورة زمنيا باستقلال الجزائر، فإن الوطنية مازالت باقية، بل إن الوطنية سبقت الثورة. فجيل الثورة سيزول يوما ما، لكن المبادئ الوطنية ستبقى، لأنها استمرار لجهاد الأمير عبد القادر، وإذا كان جيل الثورة لازال قادرا على تسيير البلاد، فلِمَ لا! لم ينته جيل الثورة بعد، ولازال قادرا على المواصلة إلى الأمام، ولكنه لن يحكم إلى الأبد، فالروح الوطنية متطورة ومتجدّدة، والأفراد الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال ليسوا هم من فجّر الثورة، ولكن جيل آخر تولى الحكم من بعدهم، فالأفراد يتغيّرون بتغيّر الظروف والزمان. فالثورة انتهت كوسيلة لبلوغ الحرية، ولكن الوطنية كمبدأ لم تنته، ولو كانت الروح الوطنية تزول، لزالت مع رحيل زعماء الحركة الوطنية والمقاومات الشعبية والثورة التحريرية. موجة الربيع العربي تجتاح العالم العربي دولة بعد أخرى، والشعوب تطالب بالتغيير، فهل الجزائر في منأى عن هذا ''الإعصار الشعبي''؟ لا أنظر إلى ما يسمى بالربيع العربي بأنه ثورة بل فوضى، لأن الثورة تكون بتحرير الأرض وطرد الأجنبي من البلاد. فقد يكون بعض الزعماء العرب، أمثال بن علي ومبارك، قد ارتكبوا أخطاء وبعض التهاون، ولكن قل لهم (الثوار) أن ينظموا الأمور كما كانت في السابق، لأن بناء سلطة تفرض الهيبة والطاعة ليست بالأمر الهيّن. أنظر لما يحدث في سوريا وليبيا واليمن وتونس من فوضى. ومع ذلك، فنحن ضد الزعامة وضد توريث الحكم، فالأشخاص لم يخلقهم الله لنعبدهم. الجزائر: حاوره مصطفى دالع الدكتور عمار محند عامر ل''الخبر'' * ''الشرعية الثورية وهم وليست هي التي تحكم البلاد'' تناول الدكتور عمار محند عامر، في حوار مع '' الخبر''، مشكلة الشرعية الثورية، مؤكدا أن: ''مشكلة الجزائريين ليست مع الشرعية الثورية، بل مع توظيفها كأداة لشرعية النظام''. وتساءل قائلا: ''من هي هذه العائلة الثورية؟ ليس لدينا معطيات جدية حولها''. تناول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في خطابه الأخير بسطيف، مسألة نهاية الشرعية الثورية وضرورة استبدالها بشرعية ديمقراطية نابعة من سيادة الشعب بالاحتكام للصندوق، خمسين سنة بعد الاستقلال. هل الخطاب يترجم حقيقة قناعة رسمية لدى صناع القرار، أم أنه مجرد خطاب ظرفي كالعادة لتعبئة المواطنين من أجل المشاركة في اقتراع 10 ماي؟ 50 سنة بعد الاستقلال، ولا تزال الشرعية الثورية تشكل بالنسبة للنظام حصيلته الرئيسية، مازلنا نعيش نظرة ماضوية للتاريخ، حيث أن المشروع السياسي المستقبلي للبلاد غائب، وهذا ما لاحظناه في برامج عدد كبير من الأحزاب، خاصة الجديدة التي تستلهم خطابها من بيان أول نوفمبر .1954 وفيما يتعلق بالشطر الثاني من سؤالك، أظن أن الثقافة السياسية الرسمية مازالت متشبثة بواقع اجتماعي وسياسي لا يستجيب لطموحات الحاضر، والدليل على ذلك نسبة العزوف العالية عن الانتخاب والنتيجة الضعيفة التي حصل عليها حزب جبهة التحرير الوطني، مقارنة بال21 مليون مسجل. النظام يخاطب، ويحاول إقناع نفسه بنفسه. تعوّدت السلطة الحاكمة في الجزائر، خلال فترات الأزمة، استعمال خطاب انتهاء الشرعية الثورية. ما مدى تطابق هذا الخطاب مع الواقع والممارسات السياسية اليومية، من خلال تناقص أو تنامي دور منظمات العائلة الثورية في دوائر صنع القرار؟ ولكن، من تكون الأسرة الثورية؟ حتى الآن، ليس لدينا معطيات جدية حول هذه الهيئات التي أعلنت نفسها بشكل أحادي بأنها تمثل كل ما له علاقة مع الثورة، ونجهل أيضا الظروف التي أسست فيها، والشيء الأكيد هو أنها موجودة وتمثل أداة لشرعية النظام، أكثر من كونها قوة تجنيد وتجديد وتكريس الممارسة الديمقراطية والتداول على السلطة. إنّ نتائج هذه الانتخابات أظهرت أن أثرها الحقيقي في المجتمع ليس كبيرا. بحكم اشتغالكم في إطار أبحاثكم الجامعية بأحداث صائفة 1962 بين الأجنحة المتصارعة على الحكم، كيف تفسرون التناقض المسجل في توظيف زمرة من الحكام كانوا بعيدين عن الثورة للشرعية الثورية من جهة، ومن جهة أخرى السعي من أجل إبعاد كل من له صلة بالشرعية الثورية الحقيقية عن مراكز صنع القرار؟ هذا النقاش حول الشرعية الثورية أو التاريخية بدأ في 1962، حيث دعت أصوات بارزة من جبهة التحرير الوطني من جيل نوفمبر 1954 أن يحمل جيل الاستقلال مسؤولية بناء الدولة. لكن الطموحات السياسية وحب الزعامة أفشلت ذلك، حيث أن أزمة صائفة 1962 وضعت حدا لهذه المطالب الجريئة. ينبغي أن نتذكر هنا أن محمد بوضياف، الذي كان المحرك الرئيسي لجبهة التحرير الوطني التاريخية في 1954، أسس حزب الثورة الاشتراكية في 20 سبتمبر .1962 وهنا تكمن رمزية الموقف. والملاحظ أن مسألة الشرعية الثورية هذه لم تكن طابو بعد الاستقلال. هل استمرار السلطة الحاكمة في توظيف الشرعية الثورية كأداة للبقاء في الحكم على حساب الشرعية الديمقراطية، سيدفع بالشعب إلى الانتفاض لوضع حدّ للشرعية الثورية؟ الشرعية الثورية وهم، وليست هي التي تحكم البلاد. علينا بالعودة إلى طبيعة الأفالان التاريخي، صراعاته، ظروف بناء الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، دور الجيش في هذه الفترة، تهميش وإقصاء زعماء وكفاءات ساهمت بصورة كبيرة في الوصول بجبهة التحرير الوطني إلى مبتغاها، أي استرجاع السيادة الوطنية. لا أظن أنّ المواطن الجزائري له مشكل مع الشرعية الثورية، لكن مشكلته هو توظيفها لمطامع بعيدة كل البعد عن أهداف وطموحات من ضحّوا بأنفسهم من أجل هذا البلد. وهران: حاوره جعفر بن صالح * الدكتور عمار محند عامر، أستاذ في التاريخ وباحث بالمركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (كراسك) وهران، وصاحب رسالة دكتوراه حول ''أزمة صائفة 1962''. الثورة من المشروعية إلى الشرعية كانت مبادرة جبهة التحرير الوطني بإعلان الثورة في الفاتح نوفمبر 1954 مبادرة مشروعة، استنادا إلى نتائج انتخابات سابقة، وتقديرات سلطات الاحتلال ذاتها قبيل إعلان الثورة. أ- في ربيع 1939 حقق مرشح حزب الشعب الجزائري، محمد دوار، مفاجأة في انتخابات جزئية (ولائية)، بفوزه على شخصيات بارزة من التيارات الإصلاحية والإدارية التقليدية، مؤشرا بذلك على نجاح حزب الشعب، في إيجاد قاعدة اجتماعية عريضة للاختيار الثوري في الجزائرالمحتلة. ب- تأكّد شعبية الاختيار الثوري غداة الحرب العالمية الثانية في مناسبتين: 1- تشريعيات نوفمبر 1946 التي فضل حزب فرحات عباس - حليف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - تجنب المشاركة فيها، تفاديا للإحراج الناجم عن منافسة حزب الشعب، واحتمال الانهزام أمامه. 2- الانتخابات البلدية في أكتوبر 1947، التي حقق فيها حزب الشعب فوزا عريضا، أجبر الوالي العام الجديد، نيجلان، على استعمال سلاح التزوير، ابتداء من انتخابات أول مجلس جزائري في ربيع السنة الموالية. ج- قبيل إعلان الثورة، كانت سلطات الاحتلال تقدر أن إجراء انتخابات حرة بالجزائر يمكن أن يسفر عن النتائج التالية: حزب الشعب - حركة الانتصار 70%، حزب البيان 20%، ''حزب'' الإدارة، والشيوعيون 10%. تؤكد هذه المعطيات أن مبادرة جبهة التحرير الوطني بإعلان الثورة كانت مشروعة، لاستنادها إلى قاعدة اجتماعية عريضة. وقد تبين بسرعة أن رهانها على هذه القاعدة كان سليما إلى حد كبير... كان سليما أيضا ما جاء في بيان فاتح نوفمبر: وضع أمانة تحرير الجزائر - الثقيلة - في عنق جميع فئات الشعب، دون استثناء. أي ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام اتساع مشروعية الاختيار الثوري. وقد شرع عبان رمضان - ورفاقه- في تحقيق ذلك فعلا، ابتداء من ربيع ,1955 وقد توجت العملية في مؤتمر الصومام صائفة 1956 ب: - تكريس التحاق حزب البيان وجمعية العلماء والشيوعيين - المستقلين- بجبهة التحرير وهيئاتها القيادية. - إضفاء الشرعية الثورية - المؤقتة - على هذه الهيئات، ممثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ والمجلس الوطني للثورة الجزائرية. وما لبثت الشرعية الثورية - المؤقتة دائما - أن اتخذت أبعادا أخرى في سبتمبر 1958 ب: - بعث الدولة الجزائرية. ما كان يعني، عمليا وقانونيا، إعلان استقلال الجزائر من جانب واحد، واستعادة الدولة الجزائرية لأهليتها الدولية من جديد. - إعلان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لممارسة هذه الأهلية - مؤقتا - في انتظار توفير شروط الانتقال إلى الشرعية الشعبية والقانونية، عبر استفتاء تقرير المصير، الذي أصبح منذ خريف 1959 محل اتفاق مبدئي بين المتنازعين الجزائري والفرنسي. وجاءت الاعترافات المتتالية بالحكومة المؤقتة لتكرّس انبعاث الدولة الجزائرية على الصعيد الخارجي، وما لبث هذا التكريس أن تعزز في جوان 1960، بقبول توقيع الجزائر على اتفاقيات جنيف المتعلقة بالحروب. وفي 18 مارس 1962 انتزعت الدولة الجزائرية اعتراف فرنساالمحتلة، ذاتها، التي وقعت مع ممثليها - بقيادة بلقاسم كريم، نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية - اتفاقيات إيفيان، التي وضعت حدا لحرب شرسة دامت نحو سبع سنوات ونصف. واستعادت الدولة الجزائرية كامل شرعيتها - في الداخل والخارج - بالتزكية الشعبية في استفتاء تقرير المصير فاتح جويلية من جهة، وباعتراف فرنسا باستقلال الجزائر بعد يومين من جهة ثانية. وجاء انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 20 سبتمبر الموالي، ليضفي الشرعية الشعبية على مؤسسات الدولة الجزائرية المستقلة، وعلى الهيئات التنفيذية المتولدة عنها، بدءا بتعيين حكومة برئاسة أحمد بن بلة في 26من نفس الشهر. وكان المجلس التأسيسي والحكومة الجديدة قد تسلما في نفس الوقت، بصفة رمزية، أدوات السيادة والسلطة، من بن يوسف بن خدة عن الحكومة المؤقتة، وعبد الرحمان فارس عن الهيئة التنفيذية (حكومة بومرداس). طبعا كان المفروض أن تتوج الشرعية الشعبية بالاستفتاء على أول دستور للجزائر المستقلة، باقتراح من المجلس التأسيسي. ويمكن اعتبار هذا التجاوز أول طعنة تصيب الشرعية الشعبية في الصميم غداة الاستقلال، وفي نفس الوقت بداية سقوط الإجماع الوطني الواسع الذي كانت ترمز إليه جبهة التحرير الوطني، طوال مرحلة الكفاح الشامل في الاستقلال. للتذكير فإن الشرعية الثورية كانت سقطت، تلقائيا، بانقلاب تحالف بومدين - بن بلة على مؤسساتها: المجلس الوطني للثورة الجزائرية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وذلك في طرابلس، عشية استفتاء تقرير المصير وإعلان الاستقلال. محمد عباس