يُخبر المولى، جلّ وعلا، أنّه قد فرض الصّيام على عباده المؤمنين، كما فرضه على مَن سبقهم من أهل المِلَل. وقد علَّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهي أن يعدّ نفس الصّائم لتقوى الله بترك الشّهوات المباحة، امتثالاً لأمره تعالى واحتساباً للأجر عنده، ليكون المؤمن من المتّقين لله المجتنبين لمحارمه. قال تعالى في سورة البقرة (الآية 183): {يا أيُّها الّذين آمنوا كُتِب عليكُم الصّيام كما كُتِب على الّذين مِن قبلِكُم لعلّكم تتّقون}. ولعلّنا نفهم من هذه الآية الكريمة سرّ وجود فكرة الصّوم، على اختلاف تطبيقاتها العملية عند كلّ الأديان الكبيرة في العالم: النصرانية واليهودية والبرهمية. وإنّما كان هذا كأثر من آثار فرض الله الصّوم على كلّ أمّة أرسل لها رسولاً. وكلّ أمّة خلَت قبلنا قد أرسل لها رسول، فوجود مثل هذه الفكرة إنّما هو من بقايا دين، كان الله أنزله ثم حرف ونسخ. على كلّ، فالآية تبيّن أنّ الصّيام فريضة الله في كلّ دين، أنزله على عباده، ودين الله في صيغته الأخيرة الخاتمة والناسخة قد فرض فيه الصّوم بصفة نهائية وخاتمة وناسخة. ولذلك، كان صوماً ما شئت أن ترى من واقعيته إلاّ رأيت، ومن سهولته إلاّ رأيت، ومن نفعه إلاّ رأيت، ومن آثاره الطيّبة على الحياة البشرية اجتماعياً وسلوكياً وعملياً إلاّ رأيت. الصّيام المفروض علينا استقلالاً هو صيام شهر رمضان، الشّهر القمري وفي ذلك معان كثيرة. ففي شهر رمضان نزل القرآن، وفيه كان بدء الدعوة الإسلامية وبدء نزول كتابها. فصيام هذا الشّهر تخليد لذكرى ينبغي أن تبقى حيّة في نفس المسلم، شعورياً وعملياً. واختيار الشّهر القمري الذي له علامته الكونية الكبيرة، القمر بدء وانتهاء، يحمل في طيّاتِه عوامل الوضوح والثبات، والاستعصاء على التحريف أو التزوير أو التدجيل، فلا تستطيع سلطة ولا جماعة أن تحرّف المسلمين عنه.