روى البخاري ومسلم من طريق سيّدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنّ رجلاً من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''أرَى رؤاكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمَن كان متحرّيها فليتحرها في السبع الأواخر''، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''التمسوها في العشر الأواخر''. ليلة القدر هي الليلة التي أنزل الله فيها القرآن، قال تعالى: {إنّا أنزلناهُ في ليلة القدر}، وسُمّيت بليلة القدر من الشرف والعزّ لأنّها ليلة العزّ والشّرف بالقرآن العظيم وما خصّها بالخصائص العظيمة كنزول الملائكة وجبريل عليه السّلام فيها، وقيل: ليلة القدر مشتقة من التّقدير لأنّ فيها تقدّر الأرزاق كما قال تعالى: {فيها يُفرَقُ كلّ أمر حكيم}. وقد اختلف العلماء فيها اختلافًا كثيرًا، فبعضهم يرى أنّ ليلة القدر قد رُفِعَت، وبعضهم يرى أنّها في كلّ سبع سنين مرّة كما ورد ذلك عن سيّدنا محمّد بن الحنفية، وبعضهم أنّها في كلّ السنة حُكي هذا القول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وطائفة من الكوفيين وأبو حنيفة، وحُكي عن بعض المتقدّمين أنّها أوّل ليلة من رمضان، وقالت طائفة إنّها في النّصف الثاني من رمضان، حُكي ذلك عن صاحبي أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، وذهب بعض السّلف إلى أنّها في ليلة بدر أي ليلة السّابع عشر من رمضان، ويرى أبو قُلابَة وطائفة أنّها تنتقل في ليالي العشر، وروي عنه أنّها تنتقل في أوتاره خاصة، وحكى الشافعي أنّ أرجأها ليلة ثلاث وعشرين. وممّن روى أنّه كان يوقظ أهله فيها عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما والسيّدة أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ''تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان''، وقد نصّ على ذلك سيّدي خليل بن إسحاق المالكي من أصحابنا في مختصره: ''وبالعشر الأخيرة لليلة القدر الغالبة به، وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف، وانتقلت، والمراد ب''كسابعة؛ ما بقي''، ورجّحت جماعة أنّها في ليلة السابع والعشرين وحكاه الثوري عن أهل الكوفة. إنّ تعظيم ليلة السّابع والعشرين وتخصيصها بختم القرآن وبإحياء الليل بالتّهجد، وهذا في شتى بقاع الأرض سواء في بلاد الشام أو العراق أو الحجاز أو المغرب، لذا يُستحب فيها إحياؤها بالتهجد، فقد جاء في الحديث الّذي رواه البخاري قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه''. وقد كان الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يتهجّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة لا يمرّ بآية فيها رحمة إلاّ سأل ولا بآية فيها عذاب إلاّ تعوّذ فيجمع بين الصّلاة والقراءة والدّعاء والتّفكّر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، قال الشافعي: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره، بل كان السّلف يعظّمونها حتّى بالاغتسال والتّزين، وكان إبراهيم النخعي يغتسل في العشر كلّ ليلة، ومنهم مَن كان يغتسل ويتطيّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، وروي عن سيّدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حُلّة إزار أو رداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبس مثلها من قابل. * إمام مسجد ابن باديس الجزائر الوسطى