يُروى أن الإمام «مالك» رحمه الله كان يستأذن أصحابه بعد انتهاء الدرس ليجلس مع الصحابة ساعة، فيدارس كتبهم ويقرأ قصصهم، فتنطبع في نفسه قدوة لم يقدر على عيشها معهم، فإن حرم معاشرتهم الحية فسيرتهم زاد له على الطريق، ومن المهم ونحن في رحاب شهر رمضان أن نقف مع الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح لنستعرض طرفا من سيرتهم العطرة في شهر الصيام فتكون لنا زادا وقدوة. رجاء الله تبليغ شهر رمضان يقول «معلى بن الفضل» "كان الصحابة يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم"، وقال «يحيى بن أبي كثير» "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، اللهم سلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا". تسميته شهر الصيام ب"المطهر" ورد عن «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه أنه كان يقول عند دخول رمضان "مرحبا بمطهرنا من الذنوب". الدعاء بالمغفرة كان «عبد الله بن عمر» رضي الله عنهما إذا أفطر يقول "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي". التفرغ لقراءة القرآن قال «ابن رجب» "وفي حديث فاطمة رضي الله عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة وأنه عارضه في عام وفاته مرتين"، متفق عليه، وفي حديث «ابن عباس» رضي الله عنهما أن المدارسة بينه وبين «جبريل» كانت ليلا" متفق عليه، فدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر، قال تعالى "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلا"، وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن كما قال تعالى "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان"، وكان «عثمان بن عفان» رضي الله عنه يختم القرآن مرة كل يوم، وكان بعض الصحابة يختم القرآن كل سبع ليال في التراويح، فقد ورد عن «عمران بن حدير» قال "كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كل سبع"، وكان بعض السلف يختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع وبعضهم في كل عشر، وكان «قتادة» يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكانت الخشية هي الغالبة على الصحابة في قراءتهم، فقد أخرج «البيهقي» عن «أبي هريرة» رضي الله عنه قال لما نزلت "أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُون"، بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"، وكان «سفيان الثوري» إذا دخل رمضان ترك جميع الأعمال وأقبل على قراءة القرآن، وكان «الوليد بن عبد الملك» يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة، وقال «الربيع بن سليمان» "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة"، وقال «أبو بكر بن الحداد» "أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قدرت عليه تسعا وخمسين ختمة وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة"، وكان «محمد بن إسماعيل البخاري» يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة، قال «ابن رجب» الحنبلي "وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان وخصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتناما للزمان والمكان". إقام صلاة التراويح وقيام الليل قال «السائب بن يزيد» "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر"، وكان الصحابة يعدون من يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من المخففين، فعن «عبد الرحمن بن هرمز» قال "ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في شهر رمضان، قال فكان القراء يقومون بسورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها القراء في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف عنهم"، وعن «نافع بن عمر بن عبد الله» قال سمعت «ابن أبي مليكة» يقول "كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة: الحمد لله فاطر ونحوها، وما يبلغني أن أحدا يستثقل ذلك"، وورد أنهم كانوا يقومون الليل حتى يقترب الفجر. تحدي العجز والكبر كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على طول القيام مع كبر سنهم، ولم يكن هذا مانعهم من أن يطيلوا، فقد ورد عن «سعيد بن عامر» عن «أسماء بن عبيد» قال "دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأني قفة حتى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم ثلاثين آية، وأحسبه قد قال: أربعين آية في كل ركعة، يعني في رمضان"، وورد أن «أبا رجاء» كان يختم بالناس القرآن في قيام رمضان كل عشرة أيام، ولم يكن النساء أقل نصيبا في صلاة التراويح من الرجال فيروي «أبو أمية الثقفي» عن «عرفجة» أن «عليا» كان يأمر الناس بالقيام في رمضان فيجعل للرجال إماما وللنساء إماما، قال فأمرني فأممت النساء. الإنفاق على المحتاجين عن «ابن عباس» رضي الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان وإن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"، متفق عليه، وقال «ابن رجب» قال «الشافعي» "أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"، وكان «ابن عمر» رضي لله عنهما لا يفطر إلا مع المساكين وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه إياه، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي، فيصبح صائما ولم يأكل شيئا. الزهد وترك البذخ قال «إبراهيم بن أبي أيوب» "كان محمد بن عمرو الغزي يأكل في شهر رمضان أكلتين"، وقال «أبو العباس هاشم بن القاسم» "كنت عند المهتدي عشية في رمضان فقمت لأنصرف فقال اجلس، فجلست، فصلى بنا ودعا بالطعام فأحضر طبق خلاف عليه أرغفة وآنية فيها ملح وزيت وخل، فدعاني إلى الأكل فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ، فقال ألم تكن صائما؟، قلت: بلى، قال: فكل واستوف فليس هنا غير ما ترى"، ومن أراد الاستمتاع بالصلاة فلا يكثر من الطعام، فإن قلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى، وقال «محمد بن واسع» "من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورق، وإن كثرة الطعام تمنع صاحبها عن كثير مما يريد". كفّ اللسان عن اللّغو عن «أبي هريرة» رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، أخرجه «البخاري»، وقال «المهلب» "وفيه دليل أن حكم الصيام، الإمساك عن الرفث وقول الزور كما يمسك عن الطعام والشراب وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه، وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه"، أخرجه «ابن أبي شيبة»، وقال «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه "ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف"، أخرجه «ابن أبي شيبة»، وعن «علي» رضي الله عنه قال "إن الصيام ليس من الطعام والشراب ولكن من الكذب والباطل واللغو"، أخرجه «ابن أبي شيبة»، وعن «جابر بن عبد الله» رضي الله عنهما قال "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء"، أخرجه «ابن أبي شيبة». الاجتهاد في العشر الأواخر كان السلف يجتهدون في العشر الأواخر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعن «عائشة» رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر"، رواه «البخاري» و«مسلم»، وفي رواية "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"، وذلك كله رغبة في بلوغ ليلة القدر المباركة التي كانوا يستعدون لها استعدادا خاصا، فكان بعضهم يغتسل ويتطيب في ليلة السابع والعشرين، فيقضونها بين صلاة وذكر وقيام وقراءة قرآن ودعاء وتضرّع لله تعالى، وقال «الشافعي» رحمه الله "ويسنّ زيادة الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان"، وذكر «ابن جرير» رحمه الله تعالى أن كثيرا من السلف كانوا يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر.