لا يمكنني نسيان آخر مكالمة دارت بيننا أستاذي مساء الخميس، حين اتصلت بي لمعرفة أجواء الانتخابات، وكلّفتني بحضور عملية فرز الأصوات في أي مركز من مراكز التصويت، ومعرفة توجهات العملية الانتخابية، وإطلاع الزميل عزيز ملوك في التحرير المركزي. كم كان مؤلما لي تلقي مكالمة زوجتك، ونبرات صوتها توحي بحدوث أمر سيء، لتقول لي: ''زكرياء، شعبان توقف قلبه''، جملة نزلت عليّ كالصاعقة، لم ولن أنسى تلك الكلمات ما حييت، ولم أدر بنفسي إلا وأنا في منزلك، حيث وجدت الفريق الطبي يعمل على إعادة نبض الحياة إلى قلبك الكبير، بعد أكثر من 10 دقائق من التوقف، قبل أن يخرج أحد الأطباء ليبعث فينا الراحة النفسية، بقوله: ''لقد استعدناه واستقرت حالته، وسنأخذه إلى المستشفى ليتلقى مزيدا من العلاج''. إلا أن هذا الارتياح سرعان ما تبخر، ليعتليه حزن غائر، بعد أن أعلمني الأطباء عند زيارتك في المساء، لدى إنهائي لكل التزاماتي المهنية كما علمتني، أن حالتك خطيرة جدا ومعقّدة، ولم تعد متعلقة بالقلب فقط، بعد أن تضرّر الدماغ جرّاء توقف عضلة القلب لمدة طويلة، ما منع الأكسجين من الوصول إليه، وهو ما يكون قد تسبّب في موت نسبي أو كلي له. كان ألمي كبيرا عندما أعلموني أنه إن قدّر لك الله حياة جديدة، فإن الآثار الجانبية ستكون خطيرة.. الشلل الكلي لجميع الأطراف، إلى جانب فقدان النطق والبصر، حسب مدى تضرّر المخ. لم يكن سهلا عليّ أن أرى عائلتك في قسم الإنعاش، متعلّقة ببصيص الأمل، بعد أن استقر ضغط الدم.. سارعت لإخراج هاتفي والاتصال مجدّدا بالأطباء لأستفسرهم عن المستجدات، إلا أن الإجابة كانت واحدة، أنك كنت تحت تأثير كمية كبيرة من الأدرينالين.. كان ألمي يعتصر قلبي كما يعتصره اليوم رحيلك أستاذي، وأنا أرى أفراد عائلتك متعلقين بآمال سرعان ما تبخرت.. في حين لم أستطع البوح بما لديّ من تفاصيل عن سوء وتدهور حالتك، ليكون اليوم الثاني لك في المستشفى فاصلا، حين قال لي الأطباء: اليوم سنبدأ في تخفيف جرعات الأدرينالين، ونرى إن كان القلب سيتمكن من التحمّل، خاصة أن الأزمة القلبية ضربت الجزء السفلي من القلب، بعد انسداد الشريان الرئيسي الذي يمدّه بالدم، وهو ما تسبّب في أضرار كبيرة له. زلزل خبر وفاتك صباح الأحد كياني، وكاد يفقدني صوابي، رغم أني حضرت نفسي وزملائي في المكتب لهذا اليوم.. انتابني الذهول لدقائق، انعقد لساني، ودخلت دوّامة تسارعت فيها المشاهد.. فقدت قلبا كان يسع كل هموم الدنيا ومشاكلها، وأنا الذي عهدتك صبورا كتوما. فرغم ما كنت تعانيه، إلا أنك كنت تفضل إخفاءه وراء ابتسامتك العريضة. لم نفقد رئيسا في العمل، بل فقدنا أبا وأخا. لا يمكنني أن أنسى نصائحك، سواء على الصعيد الشخصي أم المهني، فقد ربّيت فينا التفاني في العمل، والتضحية من أجله، وأنت من كان يعمل إلى غاية ساعة متأخرة، فحتى في أوقات إجازتك، كنت تتصل للاطمئنان عنا وعن سير العمل. كان قرارك بالخلود إلى الراحة والتقاعد بعد سنوات من العطاء مُرّا، تجرعناه على مضض، وبدأنا نفكر كيف نكرّم أبا وأخا، تكريما يليق بمنزلتك في قلوبنا، وكلنا أمل في أن تظل علاقتنا بك مدى الحياة، إلا أن الإرادة الإلهية جعلته خلودا أبديا للراحة، وأسرع مما كنا نتصوّر، فما يسعنا إلا قول الحمد لله. ستظل كلماتك وصورتك راسخة في قلوبنا. نم قرير العين يا أستاذي، فالرجال الكبار لا يموتون، وإن ووريوا تحت الثرى.