الزُّهد في حقيقته هو الإعراض عن الشّيء، ولا يطلق هذا الوصف إلاّ على مَن تيسّر له أمر من الأمور فأعرض عنه وتركه زهدًا فيه، وأمّا مَن لم يتيسّر له ذلك فلا يقال إنّه زهد فيه، ولذلك قال كثير من السّلف: إنّ عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس رحمة الله على الجميع، وقال مالك بن دينار عن نفسه: النّاس يقولون مالك زاهد، إنّما الزّاهد عمر بن عبد العزيز، أي إنّه هو الزّاهد حقيقة، فإنّ الدنيا كانت بين يديه فلم يلتفت إليها. وقد كان نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أزهد النّاس في الدنيا، وأقلّهم رغبة فيها، مكتفيًا منها بالبلاغ، راضيًا فيها بحياة الشظف، ممتثلاً قول ربّه عزّ وجلّ: {ولا تَمُدَنَّ عينيْك إلى ما متّعْنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدُّنيا لِنَفْتِنَهُم فيه ورِزْقُ ربِّك خيرٌ وأبقَى} طه:131، مع أنّ الدنيا كانت بين يديه، ومع أنّه أكرم الخلق على الله، ولو شاء لأجرى له الجبال ذهبًا وفضّة. وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة، أنّه قيل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن شئتَ أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيًا قبلك، ولا نعطي أحدًا من بعدك، ولا ينقص ذلك ممّا لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك: {تبارك الّذي إنْ شاء جَعَل لكَ خيرًا من ذلك جنَّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورًا} الفرقان: .10 وخُيِّر صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون ملِكًا نبيًا أو عبدًا رسولاً، فاختار أن يكون عبدًا رسولاً.