الدنيا دار اختبارٍ وبلاء، وهي مزرعةٌ للآخرة، يزرع الناس فيها اليوم ليحصدوا غدًا في الآخرة ''الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً''، وهي صائرةٌ بلا ريب إلى فناءٍ وزوال؛ ''كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ''. أمرُ الدُّنيا في جنب الآخرة قليل؛ ''وَفَرِحُواْ بِالَحيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَا الحيَاةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ''، عند الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام؛ ''ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمِّ، فلينظر بماذا يرجع''. الدُّنيا ليست دارَ مقرٍّ، بل هي دارُ ممرٍّ، منذ أن تستقرَّ قدمُ العبد في هذه الدار فهو مسافرٌ إلى ربِّه، ومدَّةُ سفره هي عمرُهُ الذي كُتِب له، ثم قد جُعِلت الأيام والليالي مراحلَ لسفره، فكلُّ يوم وليلة مرحلةٌ من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلةً بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيِّس الفطِن الألمعي هو الذي يجعل كلَّ مرحلةٍ نصبَ عينيه، فيهتمُّ بقطعها سالمًا غانماً. هذه الحقائقُ عن الدنيا تحجبُها جواذبُ الأرض وفِتن الدنيا عن تأمُّل القلب، في الصحيح؛ ''إن الدنيا حلوَة خضِرة، وإن اللّه مستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون''، أي: أنها حلوةُ المَذاق، خضِرة المنظَر، والشيء إذا كان حلوًا ومنظره طيّبًا فإنه يفتن الإنسان، وهكذا الدنيا حلوَة خضِرة. وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ نضرة، تسحَر الألباب، وتستهوي القلوبَ، ثم لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُلَ فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطِّمُها الرِّيح، كأن لم تغن بالأمس، هكذا حال الدنيا، زهرةٌ فتَّانة غرَّارة غدارة، تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلقت بها الألباب استحالت نضارتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق اللّه إذ يقول: ''وَاضْرِبْ لَهُم مثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ''. إنَّ هذا التصويرَ البلاغي البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبحَ الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيم الآخرة، فليس من سداد الرأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرام وجمع الحطام. إن الناس يتراكضون في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ، ويقاسون الشدائد في طلبها، بينما قد يفرِّطون في الصلاة، ويقعدون عن الجُمَع والجماعة، ويتساهلون في الطاعة، ويتثاقلون عن البذل والعطاء. وفي المقابل، هناك قوم تسربلوا بالفقر والمسْكَنَة، يرغبون في الأجور من غير تفان بزعم التفرُّغ للعبادة، وإيثار عمل الآخرة، فيصابون، بعد ذلك، بداء الكسل والإخلاد إلى الراحة والدَّعة، وداء الطمَع بعطاءات الناس ومِنحهم، وتركوا عمارةَ الأرض لأرباب الشر. إنَّ فقْدَ التوازن بين أمور الدنيا والدين أضعَفَ الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورها في قيادة الأمَم، فالمرتبة المثلى هي الجمع بين الدين والدنيا، بين الصبر والفقر، بين التقوى والغِنى، عند البخاري: ''نعم المال الصّالح للمرء الصّالح''، كان من دعائه، صلى اللّه عليه وسلم ''اللهمَّ أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كلِّ شرٍّ''. فهذا هو الفقه الرشيد الذي نص عليه أولو البصائر الثاقبة من أعلام الأمة. والله ولي التوفيق. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي - براقي