تتوافق جل الأوصاف الإعلامية المسلطة على شخصية المجاهد الراحل عبد الرزاق بوحارة بعد وفاته، في ميلها لإعادة رسم مسار الرجل السياسي المصالح، وصف يجده فيه كل من عرف الرجل من السياسيين كعسكري، كدبلوماسي، كوزير أو كمناضل. لكن بعيدا عن السياسة، يجد الكثير ممن اقترب من الحاج عبد الرزاق، كما كان يروقه أن ينادى، إنه إنساني التوجه أقرب للمعرفة، أقرب للفن وأقرب أكثر لجمال الإقليم. قريبا من المعرفة، لأن الحاج عبد الرزاق كان حريصا جدا على الصرامة الدلالية للمفاهيم، فكان دائما ينصح مجالسيه من الدارسين بالدقة، وبالاقتراب من المعرفة الاجتماعية كحالة إدراكية بسيطة، بساطة المجتمع الجزائري حديث التشكّل، لما يتعلق الأمر بتناول هذا المجتمع كموضوع للدراسة، والابتعاد، قدر الممكن، عن الغرور والغلو في وصف كل محاولة للدراية بأنها علم، ذلك أنه، على حد تعبيره، من السهل أن نعرف الكثير عن هذا المجتمع لكن ما نعلمه يبقى قليلا. وقد يعكس رده على سؤال حول منطق عمل النظام الجزائري مدى إيمانه بالبساطة الوظيفية، لما يعتقده الكثير من الناس أنه غاية في التعقيد ''المعروف أنه كانت هناك مجموعة قوى قيد التشكل، وكانت قاعدة القيادة كبح التفرد والميل لإحداث الموازنة، لكن من يمكن له أن يعلم بالنوايا والمآل، وهل كان متاحا بالأمس أن يحكم بمعطى اليوم؟''. وغالبا ما كان يؤكد ميله للتبسيط المعرفي، من خلال تكرار شرحه لمبدأ الحكم عن طريق الجدارة، المثال الذي طالما آمن به، على أنه ''لكل فرد مكانة معينة، والحكم هو القدرة على توزيع الأفراد على الأدوار وفق القدرات التي وجدوا بها''. قريبا من الفن، هو ما تلمسه من خلال مسامرتك له، فالحاج عبد الرزاق يسحرك بذلك الأسلوب السردي الخلاب، المرافق بإيمائية فريدة هي نتاج لتأثّر جلي بالتيار الإنساني لعصر النهضة الأوروبي، فكل من جاوره في جلسة ألفة قد أعاد عليه تمثيل محاكمة ''شيخ الفئران المخرب'' المتلبس بإفساد أكياس الدقيق وحوارية هيئة العدالة الموقرة، من دفاع ونيابة، وذلك في محاكاة مماثلة لأسلوب ''موليار'' في مسرحيته الهزلية ''تارتوف المخادع''. كما لا يخفى عن كل قارئ لأول كتابيه ''منابع التحرير''، الذي هو في جزئه الأول جمع لمقالات ترجع للعهد الكولونيالي، ذلك الأسلوب الأقرب لرومانسية ألكسندر ديما، وعلى الخصوص ذلك الوصف السحري لحالته النفسية المشدودة لحنين مدينة الطفولة والتواقة لمدينة الدراسة والمعرفة، مع الاسترسال في وصف رونق وبهاء الفضاء الممتد على جانبي الطريق. وقريبا من جمال الإقليم، هي حالة الولع غير القابلة للإخفاء، والتي تقارب أن تشارف الهوس، تلك التي تصيب الحاج عبد الرزاق حالما يبادر أحد المقربين، في أوقات الفراغ، باقتراح نزهة لمدينة الطفولة، أو حتى عند الإسهاب في إبراز خصوصية طبيعية أو ثقافية محلية، فباستثناء حالات المرض القاهرة، فمن النادر أن يتخلّف عن معايشة مواسم جني بعض الغلال، كالزيتون أو الكرز أو العسل، كما يندر أن يفوته منظر عودة الصيادين في أوقات راحته الصيفية. وبالرغم من سوء تفسير الكثير من رفقاء السياسة لهذه الحالة، والغلو في اعتبارها وجها من أوجه الجهوية، إلا أنه غالبا ما يواجه هذه التهمة بصدر رحب وبروح الدعابة المعتادة، ويرد التهمة بأسلوب مليء بالدلالات، '' بماذا يمكن أن نتميز في ظل هذه العولمة، أو ليس بالخصوصيات المحلية؟ وعلى كل حال؛ سمك القل أو بترول حاسي مسعود، كلاهما خصوصيات محلية نادرة''. هذا التعلق العذري بجمال الإقليم وحرية الحركة فيه يمكن إعطاؤه دلالة نفسية أخرى، يفترض أن تفسر حدود المبادرة السياسية عند الحاج عبد الرزاق، فبالرغم من قدرته على الاقتراح المتميز، وعلى الرغم من الأصالة المتجلية في أطروحاته، إلا أن حرص الرجل على ممارسة الحرية، بكل أبعادها، كان أكبر وأقوى من أي طموح سياسي. إنا لله وإنا إليه راجعون