في قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرض قوّة وبأسًا، وحكمةً وعلمًا، ونورًا وهداية، ركّزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات إفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم ولغتهم، وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتنطق بها الألسنة، وتحقَّقَ فيهم النموذج الفريد، والمثل الأعلى للبشرية، وأنّهم خير أمّة أخرجت للنّاس بعد أن كانوا طرائق قددًا، لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة. إنّها الهمَّةُ العاليَةُ الّتي تجعلُ العبدَ يثبِّت قدميه على الأرض، وقلبه معلّق بالله تعالى وجنّة عرضها السّموات والأرض. إنّ الهمّة العالية هي سُلَّمُ الترقِّي إلى الكمال في كلّ أبواب الخير، وفي شتى الميادين، في العلم والسياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع.. فمتَى تحلّت الأمّة بذلك لان لها كلُّ صعب، واستطاعت أن تعودَ إلى الحياة، مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ إن همم الرِّجال تزيل الجبال. أصحاب الهمَّة العالية فحسب هم الّذين يقومون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الّذين يبدلون أفكار العالم، ويغيّرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم. وإنّ أصحاب الهمم العالية هم القلّة الّتي تنقذ المواقف، وهم الصّفوة الّتي تباشر مهمّة الانتشال السّريع من وحل الوهن. القرآن الكريم تواترت نصوصه في ذمِّ ساقطي الهمّة، وصورهم في أبشع صورة، كما قَصّ اللّه علينا من قول موسى لقومه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، وذمّ اللّه تعالى المنافقين المتخلّفين عن الجهاد لسقوط همّتهم وقناعتهم بالدون: {رَضُوا بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}. وشنَّ حربًا شعواء على الّذين يؤثرون الحياة الدُّنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همّهم، وغاية علمهم، وبيَّنَ أنَّ هذا الركونَ إلى الدّنيا تَسَفُّلٌ ونزول يترفع عنه المؤمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}. وفي المقابل، أثنى على أصحاب الهِمَم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدّمتهم أولو العزم من الرسل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. كما ذكر اللّه تعالى أولياءه الّذين كبرت همَّتُهم ووصفهم بأنّهم رجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}. ولقد أمر اللّه تعالى المؤمنين بالهمّة العالية والتّنافس في الخيرات، فقال عزّ وجلّ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ من ربِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ}. وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}.